يعتقد كثيرون أن العالم تغيّر بعد السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، وأن فلسطين عادت للواجهة، وأن الحل أصبح مطلوباً، لأن غيابه كارثي على المنطقة وربما على العالم، وهؤلاء يمكن أن يلقّبوا بـ«المتفائلين السلميين»، ويقابلهم «المقاتلون الممانعون» الذين يرون أن «حركة حماس» غيَّرت معادلة الحرب، وأن إسرائيل في طريقها للزوال؛ وبين هذين نجد فئة الواقعيين الذين يدركون أن غزوة «حماس» ستنتهي بكارثة، وأن الحل النهائي مستحيل، وأن الحركة الدبلوماسية والصخب الجماهيري المُشاهد لن يؤديا لحل، وأن المخرج الأفضل تطويق النزاع ثم إدارته.
المتفائلون ينطلقون من رغبة حقيقية بحل النزاع، ويعتقدون أن التاريخ، والأرض، والمصالح، كما يقول الفيلسوف كانط في أطروحته عن السلام الدائم، قضايا يمكن تجاوزها بالحوار بين عقلاء يدركون مصالحهم، ويتوصلون بعدها لحلول وسطية تتمثل بحل الدولتين. أما «الممانعون» فإنهم يرون أن إسرائيل أصبحت مطوقة، وأن أهل الحق حملوا السلاح، وأن صمود «حماس» أسقط نظرية الردع الإسرائيلية، وكذلك كرّست صواريخ إيران العابرة معادلة الردع المتبادل، ولن تعرف إسرائيل بعد اليوم السلام، وأن زوالها أصبح مسألة وقت. الممانعون، خصوصاً القيادة الإيرانية، لا يعرضون رؤية عن كيفية إزالة إسرائيل، أو ماذا سيفعلون بالإسرائيليين! وبما أنهم غير قادرين على إزالة إسرائيل، وليست لديهم خطة سلام، فإن ذلك يعني استمرار الحرب غير المتكافئة بكل تبعاتها التدميرية، ليس على إيران أو إسرائيل بل على العرب، والفلسطينيين.
يبرر أصحاب حل الدولتين طرحهم باستحالة هزيمة إسرائيل، وأن العالم تغيّر، ولا بد من تعايش اليهود والعرب في دولتين. لكن هذا التعايش يبدو مستحيلاً؛ لأن الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني ينظران للصراع بمرجعية ما فوق بشرية تقول: إن الله أعطاهما حقاً حصرياً بالأرض. فالصهاينة يعتقدون أن فلسطين وهبها الله لهم، وخروجهم منها جعلهم خارج التاريخ، وبعودتهم، كما يقول بن غوريون، عادوا ثانية للتاريخ.
ومن يراجع نظرية الدولة اليهودية يرى أن أصحابها مقتنعون تماماً أن كل فلسطين ملكهم، وأن الفلسطينيين دخلاء، وهم، برأي رئيسة وزراء إسرائيل السابقة غولدا مائير، ومؤخراً نتنياهو، عرب يمكنهم العودة إلى أهلهم في الأردن ومصر، وإلى دول عربية أخرى.
هذا المنطق متأصل تماماً في فكر مؤسسي دولة إسرائيل من اليوم الأول، وبدعم بريطاني وأميركي، ولذلك كان أسلوبهم في الاستحواذ متدرجاً فقبلوا مشروع بريطانيا المنتدبة على فلسطين بإعطائهم نسبة 17 في المائة من فلسطين، لكنّ العرب آنذاك رفضوا؛ ثم قبلوا بقرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة، ورفض العرب هذا القرار، وبعد هزائم العرب، عادت الواقعية للعرب، وقبلوا بحلول جزئية أدت لعودة سيناء إلى مصر، واتفاقية سلام معها، ثم اتفاقيات وادي عربة، وأخيراً الاتفاق الإبراهيمي. كذلك قبل الفلسطينيون بحل الدولة الديمقراطية الواحدة ثم باتفاق أوسلو ومعه حل الدولتين السرابي.
مقابل هذه الواقعية يخوض تيار الممانعين معركة التحرير، برؤية ثورية، وبقيادة دولة غير عربية، وتحت شعار إخراج أميركا من المنطقة، وإزالة إسرائيل من الوجود. لكن مشكلة هذا التيار أنه لا يرى أمامه إلا إسرائيل، وكلما تحرك نحوها، يا للغرابة، دمّر مدناً عربية، وهجّر أهلها، وأفقرهم، وأوسع شقة الخلاف بين مكوناتها. ولا يهتم هذا التيار بأن زعيمته (إيران) تحتل أراضي عربية كذلك، وترفض التحكيم الدولي، وترفض وقف تدخلاتها في شؤون جيرانها؛ بل إنها رفضت مجرد انضمام العرب للحوار الجاري بينها وبين أميركا حول برنامجها النووي، أو ربط الحوار بتسليح ميليشيات تتقوى على دول العرب. هذا الرفض هو جزء من تكوين إيران (الإمبراطورية) التي ترى من حقها الهيمنة على المنطقة، والتحكم فيها وليس من حق أميركا. ولكي تكسب شرعية التحرك في المنطقة رفعت شعار تحرير فلسطين، ومن دونه ستسقط شرعيتها الثورية الإسلامية.
فئة الواقعيين بالمقارنة تدرك توازنات القوى وميلها لصالح إسرائيل، واستحالة السلام العادل لأن الصهيونية لا تعترف أصلاً بوجود شعب فلسطين، فكيف بكيان فلسطيني يشكّل خطراً وجودياً على إسرائيل؟ وهذا ما أكده نتنياهو بقوله إن «حماس»، المحاصرة، والمنهكة، أثبتت بغزوتها مدى خطورة إقامة كيان فلسطيني على أمن إسرائيل. هذا الرفض الإسرائيلي يستند إلى أدبيات الصهيونية أن المسلمين والمسيحيين العرب ليسوا السكان الأصليين لفلسطين، بل الشعب اليهودي وبنص توراتي؛ بذلك تصبح البيولوجيا والميثولوجيا الدليل القاطع للملكية. وما دام هذا المعتقد متجذراً في عقل القيادة الإسرائيلية الحالية، فإن حل الدولتين سيبقى مرفوضاً، وبغيابه سيسود العنف المتصاعد؛ لذلك فإن البديل هو تطويق النزاع، وإيجاد آلية مؤقتة لإدارته وليس حله نهائياً. هذا سيؤدي حتماً إلى استبعاد حل الدولتين من النقاش، وطرح فكرة حل مؤقت بضمان دول عربية وازنة، تطمح إسرائيل لخطب ودها.
هذا الحل المؤقت سيجمد النزاع ويسمح للعرب بإعادة ترميم عواصمهم التي سقطت بشعار تحرير فلسطين. وقد ينطوي الحل المؤقت على تدخل عربي فاعل، وبمظلة دولية، لحماية الفلسطينيين، ووقف سرقة أراضيهم، ويضمن بالمقابل لإسرائيل أمنها، وانفتاحاً عربياً كذلك. هذا سيجلب استقراراً مؤقتاً، ومع مرور الزمن قد تتغير موازين القوى، ويصبح ما كان مرفوضاً عند الإسرائيليين مقبولاً.
لا يمكن لـ«حماس» وحدها أن تحرر فلسطين، ولا إيران جادة في تحريرها، ولا إسرائيل قادرة على رمي الفلسطينيين في البحر، ولا العرب قادرون على شن حرب لإنقاذ أهل فلسطين، ولا الغرب قادر على حماية كيان متهم بالإبادة الجماعية، وأصبح ضاراً بمصالحه الاستراتيجية. وما دام أن حل الدولتين غير مقبول، فإن الإصرار عليه سيعطي الممانعين، والإسرائيليين ذريعة للاستمرار في حروب عبثية تقوي إسرائيل، وتوسع مصادرتها للأراضي الفلسطينية، وتوفر لإيران فرصة للتوسع أكثر في بلاد العرب. وحتى لا يتحول هذا الواقع إلى تراجيديا، فإن إدارة النزاع قد توقف سيلان الدم، وتسمح للعرب بترميم كياناتهم المتهاوية ثم التفاوض من موقع القوة وليس الضعف.