إيلي ليك
TT

ترمب وبوتين وذكرى مصافحة شهيرة بين عملاقين

خلال أغلب فترة رئاسة السيد دونالد ترمب السابقة، مارست حكومته ضغوطها للتخفيف من غريزته المتقدة لاسترضاء نظيره الروسي فلاديمير بوتين. ورغم محاولات الرئيس ترمب المستمرة - والمثيرة للحيرة - لتملق السيد بوتين مع رغبته الملحة في تحسين العلاقات الثنائية مع روسيا، فإن الإدارة الأميركية قد وسعت من العقوبات الاقتصادية ضد موسكو، وطردت جواسيس الكرملين من البلاد، وشنت حرباً دبلوماسية وسياسية شديدة على وكلاء روسيا في مختلف البلدان.
وفي بعض الأحيان، ورغم كل شيء، يفوز الرئيس الأميركي في مساعيه. ولقد تكرر الأمر مجدداً خلال الأسبوع الماضي، عندما صدر بيان مشترك عن البيت الأبيض الأميركي والكرملين الروسي بمناسبة الذكرى الـ75 للقاء القوات الأميركية والسوفياتية على جسر نهر «إلبه» الألماني، الأمر الذي أسفر عن شطر ألمانيا النازية إلى نصفين ومهد الأجواء لانتصار قوات الحلفاء في الحرب العالمية الثانية.
وفي الفقرات الثلاث الأولى، يعرب البيان عن ذكرى المصافحة الشهيرة بين الجيشين. ولكن الفقرة الأخيرة من البيان عبارة عن دعوة الخصمين الكبيرين إلى التعاون والمضي قدماً، وجاء فيها: «إن روح نهر إلبه مثال على الطريقة التي يمكن لبلادنا تنحية خلافاتنا جانباً، والعمل على بناء الثقة، والتعاون من أجل القضايا الكبرى». وأضاف البيان: «ومن خلال العمل اليوم لمواجهة أهم تحديات القرن الحادي والعشرين، فإننا نشيد ببسالة وشجاعة جميع الذين قاتلوا معاً من أجل هزيمة الفاشية».
ولقد أخبرني مسؤولو إدارة الرئيس ترمب أن كبار مسؤولي وزارتي الدفاع والخارجية كانوا معترضين على لغة البيان المشترك. وأفاد المسؤولون بأنهم يساورهم القلق من أن ترمب قد سقط فريسة بين أيدي بوتين، الذي يسعى سعياً حثيثاً إلى إضعاف الصلات الأميركية مع حلف شمال الأطلسي، ويرغب في نهاية المطاف إلى اعتراف الولايات المتحدة بمجال النفوذ الروسي في البلدان التي كانت يوما جزءاً من المنظومة السوفياتية، مثالاً بأوكرانيا وجورجيا.
ومن الأمور الأكثر إثارة للقلق، موافقة الرئيس ترمب المبدئية، خلال مكالمة هاتفية مع الرئيس بوتين، على السفر إلى موسكو خلال الشهر المقبل لإحياء ذكرى انتصار قوات الحلفاء ضد الكيان النازي. ولقد جرى إلغاء هذه الاحتفالية الرسمية منذ ذلك الحين بسبب جائحة وباء كورونا الراهنة. وعندما اتخذ القرار بإعادة ترتيب ميعاد الزيارة، وافق البيت الأبيض على إرسال السيد روبرت أوبراين، مستشار الأمن القومي الأميركي مبعوثا عن الرئيس ترمب.
وبقدر تعلق البيان بالأمر، فهو ليس سيئاً بالمقارنة بأداء الرئيس الأميركي مع نظيره الروسي في قمة اليوم الواحد التي عُقدت في هلسنكي عام 2018، هناك، تقبل الرئيس الأميركي الرواية الروسية بأن موسكو لم تتدخل قط في الحملة الرئاسية الأميركية في عام 2016، رغم تقدير مجتمع الاستخبارات الأميركي للأمر والذي أكد العكس من ذلك تماماً. كما أن بيان إحياء مصافحة جسر «إلبه» ليس باعثاً على الإحراج بقدر اجتماع الرئيس الأميركي مع وزير الخارجية الروسي والسفير الروسي في البيت الأبيض في عام 2017، والذي بعده بساعات قليلة أصدر الرئيس ترمب قراره بإقالة جيمس كومي مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي. وفي ذلك الاجتماع المذكور، تفاخر السيد ترمب بفصله الرجل الأميركي الأول المسؤول عن التحقيق في التدخلات الروسية في الانتخابات الرئاسية الأميركية.
كذلك، تعكس لغة البيان الأميركي الروسي المشترك في عام 2020 الحالي ذلك البيان الصادر سابقاً في عام 2010 من قبل الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما رفقة الرئيس الروسي آنذاك ديمتري ميدفيديف. وعلى العكس من الرئيس ترمب، أعاد باراك أوباما في عام 2010 إعادة تنضيد العلاقات مع روسيا، إثر عملية الاجتياح العسكرية التي نفذتها الأخيرة ضد دولة جورجيا في عام 2008.
ومع ذلك، يبعث بيان إحياء مصافحة جسر «إلبه» برسالة خاطئة في الآونة الراهنة مع استمرار التحديات الروسية للمواقف الأميركية على مستوى العالم. ففي فبراير (شباط) الماضي، حلقت المقاتلات الروسية فوق السفن البحرية الأميركية في البحر الأسود. وخلال الشهر الحالي، نشرت وزارة الخارجية الأميركية تقريراً حكومياً داخلياً يتعقب الدعاية الروسية والصينية خلال مجريات الوباء الراهن، وخلصت الخارجية الأميركية إلى أن كلا البلدين كانا يزعمان بصورة خاطئة أن الفيروس عبارة عن سلاح بيولوجي من تصميم الولايات المتحدة الأميركية. ويواصل وكلاء موسكو شن الحرب الانفصالية بالوكالة عن الكرملين في شرق أوكرانيا، مع القوات الروسية التي ما تزال تحتل أجزاء من جورجيا.
كما يبعث البيان الأميركي الروسي المذكور برسالة خاطئة أخرى إلى حلفاء الولايات المتحدة في أوروبا الشرقية. إذ أخبرني السيد توماس هندريك ألفيس، رئيس إستونيا الأسبق، أنه بالنسبة إلى بلاده وبلدان أخرى من التي عاشت تحت قمع «الستار الحديدي» السوفياتي لعقود طويلة، فإن نهر «إلبه» لا يرمز البتة إلى التعاون الجيوسياسي المنتظر. بل إن ذلك النهر، الذي شكّل جزءاً من الحدود بين شطري ألمانيا الشرقية والغربية إبان حقبة الحرب الباردة، كان يعد الخط الفاصل ما بين الحرية والقمع، كما قال الرئيس الإستوني، الذي أضاف أن بيان «إلبه» كان سوف يعتبر بياناً للاستسلام من قبل مقاتلي الحرب الباردة من أمثال الرئيس الأميركي الراحل رونالد ريغان.
يتسق الشق الأميركي من البيان المشترك المذكور مع بيان سابق آخر للرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون خلال نهاية فترة ولايته الأولى لرئاسة البلاد. حيث أجرى الرئيس نيكسون اتصالات دبلوماسية سرية مع الصين الشيوعية بغية تعزيز الموقف التفاوضي الأميركي مع الاتحاد السوفياتي، بشأن انفراج العلاقات الثنائية والرقابة على الأسلحة. وعندما سافر الرئيس نيكسون في خاتمة المطاف إلى بكين، شرع في إطلاق الشراكة التجارية التي تبدو في حالة إنهاك وتداعٍ واضحة الآن.
ومشكلة طريقة التفكير تلك في أيامنا هذه أن روسيا والصين تشتركان في مصلحة واحدة تدور حول تقويض النظام الدولي الراهن - رغم التحذيرات الصادرة عن الأطباء الصينيين، والصحافيين، والباحثين - وقد فشلتا في تنبيه العالم من قدوم جائحة وباء كورونا الراهنة. وهذا هو السبب في أنه حري بالسيد دونالد ترمب، ومن الحكمة كذلك، التخلي عن متابعة خططه لتعزيز العلاقات مع فلاديمير بوتين، ما لم - وحتى - يعيد الرئيس الروسي الأراضي المنهوبة من دولتي جورجيا وأوكرانيا، ويتخلى تماماً عن أحلامه الخاصة بإعادة إحياء إمبراطوريته.
- بالاتفاق مع «بلومبرغ»