خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

الجود بالصوت

أنواع الكرم كثيرة. والحكايات عنها أيضاً كثيرة. المألوف في الكرم العربي أن يأتي بصورة الولائم السخيّة والهدايا الثمينة من طعام أو كساء أو أي مادة ملموسة؛ ساعات، أو كاميرات، أو حلى ذهبية أو فضية، أو كتب... ونحو ذلك. ولكن في الثلاثينات والأربعينات ظهرت أشكال جديدة من الكرم. أشياء مجردة لا تُلمس باليد. لا تستطيع أن تأكلها ولا أن تشربها أو تلبسها أو تبيعها... إنها مجرد أصوات. نعم؛ هدايا صوتية.
لم يكن في البلاد العربية أي محطات إذاعية في أوائل الثلاثينات. وبالتالي لم تكن هناك أي حاجة لاستيراد الراديوهات. بيد أن السيد هاشم العلوي الذي كان مديراً عاماً للشرطة في بغداد حصل على جهاز راديو سنة 1932. لم تكن هناك إذاعة عربية ليستمع إليها. كان يستمع به إلى إذاعة أذربيجان التي كانت تذيع باللغة التركية التي كان هاشم العلوي مًلمّاً بها. وهنا تجلّى كرمه. فقد دأب على دعوة أصدقائه ممن عرفوا اللغة التركية ليَفِدوا إلى بيته فيدير لهم الراديو. وإذا بهم يستمعون إلى ما يجري في العالم حسبما تذيعه تلك المحطة. وفي كثير من الأحيان كانوا يجلسون لإتمام السهرة بالاستماع إلى ما تذيعه من الأغاني التركية والأذربيجانية. وهكذا وُلدت في بغداد الضيافةُ الصوتية، أي أن تستضيف الناس لمجرد السماع.
سمع بذلك السيد رؤوف عبد المجيد، محرر اللوائح القانونية في «سوق السراي»، فبذل جهده للحصول على جهاز راديو آخر. فكان ثاني راديو يدخل العاصمة العراقية. وكان السيد رؤوف من أكثر الناس كرماً. كان هو الآخر يدعو أصحابه إلى بيته ليستمعوا إلى الراديو ويفرِّجهم عليه وعلى الأزرار الثلاثة الموجودة على وجهه؛ تدير الأول يميناً فيرتفع الصوت، وتديره يساراً فينخفض. وتدير الزر الآخر فتنتقل من رجل يتكلم بالتركية إلى محطة أخرى تسمع منها امرأة تغنّي غناء بلغة لا تعرفها. ثم تدير الزر الثالث فينقطع كل شيء ويسكت الراديو... تعود فتديره ثانية؛ فإذا بك تسمع ثانية المرأة نفسها تواصل غناءها. فيمسك الضيوف أنفاسهم ويرددون «ما شاء الله! ما شاء الله. سبحان القادر على كل شيء».
بيد أن السيد رؤوف لاحظ أن النساء قد حُرمْنَ من هذه المتعة نظراً لعدم جواز دعوتهنَّ للجلوس مع الرجال. صعب عليه ذلك. فعمد إلى حمل الراديو إلى سطح البيت. ولما كان العراقيون قد اعتادوا النوم فوق سطوح بيوتهم صيفاً، فقد دأب على تشغيل الراديو بأعلى صوته بحيث تستمع إليه سائر العوائل المجاورة وهم على فُرُشهم يأكلون البطيخ ويَتَعَشَّون بالخيار والجبن. وكان الرجال يتبادلون التعليقات من فوق ستائر البيوت، ويصفقون، ويبدون آراءهم في الأغاني والأخبار... ونحو ذلك. ثم ينتهي كل شيء قبيل منتصف الليل، فينادي كل منهم بالشكر والتقدير للسيد رؤوف على ضيافته الصوتية: «جزاك الله خيراً (أبو منيف). هذا فضلك لا يُنسى». يغلق الرجل عندئذ الراديو ويلتفت لامرأته. ومع ذلك، فلا بد من أن نقول: الله يساعد من كان متعباً ويريد النوم على هذا الضجيج. ولكن في تلك الأيام؛ أيام الخير، كان المواطن العراقي يحترم وينسجم مع رغبات جيرانه وأصحابه.
كان السيد رؤوف عضواً في «نادي الأمل»؛ حيث سمع الأعضاء بحكاية هذا الراديو، فتوسَّلوا إليه أن يعطيهم فرصة للاستماع إليه. ولكنه أبدى كرمه الواسع بإعطائهم فرصة للاستماع لصلاة يوم الجمعة من إذاعة أذربيجان. يحمل الراديو إلى النادي ثم يعود به مساء؛ بما أسفر عن نزاع بين أهله وجيرانه من جهة؛ و«نادي الأمل» من جهة ثانية.
والواقع أن دعوة الأهل والأصدقاء للاستماع للراديو ظلت لسنوات عدة من سُنَنِ الكرم والجود والضيافة العراقية.