فهد سليمان الشقيران
كاتب وباحث سعودي
TT

هابرماس والوباء... تحديات سياسية وأخلاقية

يرتبط اسم الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس بقراءة التحولات ودرس المنعطفات؛ طوال حياته التي تناهز القرن من الزمان، حيث ولد في 1929، لم يغب عن درس التحديات التي تعصف بالبشرية، وبقي قريباً من نظرية كانط الأخلاقية مطوّراً لها، ومحامياً عن الحداثة داعياً إلى استكمالها، معتبراً الحداثات البعدية ليست سوى نقد سببتْه الحداثة، وبالتالي فهي لم تبرحها بشكلٍ كلي.
وما كان هابرماس مبتعداً عن الأحداث اليومية وشؤون الناس، بل يتداخل مع وسائل الإعلام والصحف، حول الاقتصاد والسياسة والإرهاب، ومجمل الأوضاع التي يواجهها الناس في معاشهم، وهذه سمة فلاسفة كبار لا يرون بالحيوية مع الواقع والمجتمعات أي انتقاصٍ لمهنتهم، فهو فيلسوف استثنائي، ولا يكف عن مراجعة ونقد نصوصه، تبعاً لتطوّره، وتغير الحياة وتجدد تحدياتها، وتغير رهانات أفكاره ونظرياته.
قبل أيام، في 11 أبريل (نيسان)، أجرت «لوموند» الفرنسية حواراً مهماً مع يورغن هابرماس حول وباء «كورونا»، ومستقبل الاتحاد الأوروبي، والأخلاقيات الطبية، ومصير اليورو. وترجم الحوار من الألمانية إلى الفرنسية فريدريك جولي، ومن الفرنسية إلى العربية نوفل الحاج لطيف، ونشره موقع «حكمة» الفلسفي. وقبل أن أتطرق لمضامين الحوار، أعود إلى كتابه المهم «مستقبل الطبيعة الإنسانية نحو نسالة ليبرالية»، وضمّنه محاضرته المهمة «تحفظ مبرر»، لأن فيه صلة ببعض ما ورد في الحوار، إذ ينتقد في كتابه «التدجين البشري»، منطلقاً من التمييز بين نظرية كانط في العدالة ونظرية كيركغارد في الكائن بصفته ذاته، وذلك بسبب الجدل الذي أثارتْه التقنية الوراثية آنذاك في أوائل الألفية، والهدف من كل ذلك، كما يقول: «الدفاع عن فكرة ترى أن على الفكر ما بعد الميتافيزيقي أن يفرض تحفظاً حين يقوم باتخاذ مواقف لها سمة الالتزام تجاه مسائل جوهرية تتعلق بـ(الحياة الصالحة)». ورأى أن النظريات المستلهمة لكانط استطاعت أن تشرح القواعد الأخلاقية، باستثناء الإجابة عن سؤال: «لماذا يجب أن نكون أخلاقيين»، إذ تكون الإجابة حينها قاصرة غير وافية، وبالتحديد «حين يكون ثمة صراع حول مبادئ ترعى الحياة الجماعية».
وفي الحوار، ينتقد «خطاب القيمة»، وهو «المستعار من مجال الاقتصاد، المشجع على القياس الكمي الذي يتم من وجهة نظر الملاحظ (حياة إنسان مقابل آخر). ولكن لا يمكن التعامل مع استقلالية الشخص على هذا النحو: لا يمكن وضعها في الحسبان إلا انطلاقاً من منظور آخر، حين نكون وجهاً لوجه مع هذا الشخص. ومن ناحية أخرى، تُبين الأخلاقيات الطبية توافقها مع الدستور، وتلبي مبدأ: ليس ثمة ما يبرر (اختيار) حياة إنسان بدل حياة إنسان آخر».
هذا ما أثاره هابرماس حول الأزمة الأخلاقية والدستورية التي تعترض الإجراءات الطبية، وقراءته لها تأتي منسجمة مع «التدجين البشري» الذي انتقده، ضمن هجمته على التقنيات الوراثية، في كتابه آنف الذكر: «نحو نسالة ليبرالية».
أما عن الاتحاد الأوروبي ومستقبله، فيجيب: «إن ما يعوزنا قطعاً هو الاعتراف بأن تجاوز هذا المأزق ما بعد الديمقراطي يكمن فقط في أوروبا موحدة منتصرة لديمقراطيتها، وفي اتخاذ هذه الخطوة بكل شجاعة». ولا يرى بديلاً لمساعدة الدول الأعضاء للأخرى المثقلة بالديون وبهشاشة البنية التحتية، مثل إيطاليا وإسبانيا، إذا أراد الأوروبيون إنقاذ اليورو، مؤيداً اقتراح «سندات كورونا» التي دعت إليها فرنسا. ويعد أن الحل الأساسي يتمثل في «تأسيس نواة صلبة أوروبية قادرة على الفعل وحل المشكلات. وفي هذه المرحلة بالذات علينا أن نكافح من أجل إلغاء النيوليبرالية».
وحين سئل عن «الشعبوية القومية» التي تنتعش في المجال الفكري والفضاء العمومي، وخطرها على أوروبا، أجاب مطولاً بما يمكن اختصاره بالآتي:
* في ألمانيا، استطاع الماضي الاشتراكي القومي أن يحمينا بقوة من أي تمظهر مباشر لآيديولوجيا أقصى اليمين.
* في فرنسا، لطالما كان التطرف اليميني المنظم قوة سياسية، ولكن له جذوراً آيديولوجية أخرى أكثر مما عليه الوضع في ألمانيا.
* اليسار الفرنسي لم يعد يفكر في مناهضة الرأسمالية بطريقة متسقة.
* قد يكون لشعبوية اليمين «الفكري» ادعاءات فكرية، ولا تعدو أن تكون إلا كذلك.
* شعبوية اليمين «العادي» التي تمتد إلى ما هو أبعد من الطبقات الفقيرة والمهمشة من السكان، حقيقة يجب أن تؤخذ على محمل الجد، والثقافات الفرعية الهشة تتأثر بعوامل تثير قلقها؛ تجارب معاصرة، وهجرات، وثورة تكنولوجية، تسبب الخوف من فقدان الإنسان لوضعه الاجتماعي.
تلك خلاصة رؤية الفيلسوف العتيد لهذه الآفة الحالية، وهو من حجْره أجاب عن الأسئلة بحكمة ورويّة، مساهمة في إنقاذ ألمانيا وأوروبا والبشرية.
وتأتي تأملات هابرماس حول الوباء منسجمة مع نظريته الأخلاقية، ودفاعه عن مستقبل الطبيعة الإنسانية بوجه «صرعات التدجين»، وهو وريث مدرسة فرانكفورت المعروفة بمناهضتها لتلك السياسات.
وأخيراً، لم يفت المحاوِر سؤال ضيفه عن نشاطه اليومي بالحجْر، ليجيب هابرماس: «تخفف عني الساعاتُ التي أقضيها أمام الكومبيوتر، منهمكاً في تدبر العلوم المهتمة بتاريخ الفكر، وطأةَ الحجْر».