كان من أبلغ البرامج التلفزيونية التي اعتاد على تقديمها تلفزيون بغداد برنامج «العراق في انتقال»، الذي كان يجسم تطور البلاد في العهد الملكي. وكنا نلمس ذلك بصورة خاصة في ميدان الطب. فلم يكن الطب الحديث معروفاً في البلاد عند تأسيس مملكة العراق واستقلال الوطن عام 1920. كان الناس يعتمدون بصورة أساسية على الطب التقليدي الشعبي، ولم يكن هناك غير واحد أو اثنين من الأجانب الذين مارسوا الطب الحديث ودرسوا في الخارج. بيد أن الحكومة العراقية الجديدة بادرت إلى سد هذه الثغرة بجلب الأطباء العصريين والأدوية الحديثة والصيدليات المتخصصة. ولكن، وكما نتوقع، لاقى ذلك كثيراً من المصاعب والمفارقات، كما يذكر المؤرخون والصحافيون.
من أول الأطباء الأوروبيين الذين وفدوا إلى بغداد كان الدكتور أندرسن، وهو بريطاني يعود له الفضل الكبير في إقامة كلية الطب وإعطائها تلك السمعة الجيدة. ثم كان هناك الطبيب ماكس مكوفسكي، وكان بولندياً يهودياً لاقى إقبالاً كبيراً من الجمهور بدعوى أنه كان يستطيع معالجة مرض السل الذي كان يفتك بآلاف الناس. ولكن كان هناك عدد قليل من الأطباء العراقيين الذين درسوا في الأستانة والخارج، ومنهم كان الدكتور شاكر السويدي. وكان من أول الأطباء المحليين الذين بدأوا بكتابة وصفاتهم الطبية باللغة الإنجليزية. يروى عنه أنه عالج يوماً السيدة فاطمة التي كانت تعمل مربية في أسرة القشطيني في جانب الكرخ وكتب لها وصفة بالإنجليزية. فأخذت الوصفة إلى أحد العطارين المشهورين في سوق الجديد، الحاج أحمد. نظر في الورقة ولم يستطع قراءتها. قال لها: «ماكو هالدوا بالسوق». فرجعت للدكتور شاكر وأخبرته بما قال لها العطار. ضحك الدكتور وأعلمها باسم صيدلية في جانب الرصافة حيث يفهمون الوصفة ويحضرون لها الدواء.
وعندما افتتحت كلية الطب في المستشفى الملكي، واجه المسؤولون شتى المصاعب، كما يمكننا أن نتصور. ولكن من أطرف هذه المصاعب تخوف التلاميذ من درس التشريح وما يتضمنه من رؤية جثث الموتى وما يتطلبه من تقطيعها وتشريحها. كان بعض الطلبة يخرجون من الدرس ويتقيأون. استحرم آخرون الفكرة والعملية بكاملها. وبالطبع لم تجرؤ أي فتاة بادئ ذي بدء على التوغل في هذا الميدان. ومواجهة جثث عارية لرجال ونساء موتى.
لحسن الحظ، كان هناك الملا خضر بن شاكر الزبيدي، من أهل الكرخ أيضاً. كانت مهمته في المستشفى تحنيط الجثث لصيانتها من التفسخ. أعطاه ذلك القدرة على التعامل مع الجثث وإعدادها للدرس، اعتمد عليه أستاذ التشريح الإنجليزي. وقد اعتمد على الملا خضر في إعداد هذه المهمات وفي تشجيع الطلبة وشد عزيمتهم. أصبح مجرد وجوده كمسلم وملا من الأتقياء داخل القاعة يسهل للأستاذ مهمته.
ومن الطريف أن يقال إن هذا الملا البسيط أصبح بمرور الزمن من الأعمدة الرئيسية في إعلاء ِشأن دراسة الطب في العراق. وقد ورد ذكره في كثير من يوميات الأطباء ومذكراتهم من حيث دوره في تشجيع الطلبة وانتشار روح العصرنة في البلاد عموماً. وقد جاء فيه ذكر طيب في كتاب عبد الحميد العلوجي عن تاريخ الطب العراقي. كما اعترف بدوره الحساس في دعم دراسة الطب الدكتور أندرسن والدكتور صائب شوكت الذي تولى عمادة الكلية فيما بعد.
ولا شك أنه كان واحداً من أهل الخير الذي أسهم كثيراً في إعداد دورات من الأطباء والطبيبات.
8:2 دقيقه
TT
العراق في انتقال
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة