هامل بن جريف السلمي
- محلل اقتصادي سعودي
TT

الاقتصاد المرن في عهد «كوفيد ـ 19»

لا يخفى على أي عاقل أن الأيام العجاف قد أرخت علينا سدولها، وأن جملة الظروف الحالية التي لامست حياتنا اليومية تؤذن بهز أركان دول وكشف قناع القيم المزعومة وتثبيط الهمم نحو القمم، فبدل أن توحد هذه الظروف بني البشر فتزيل ما بينهم من خلافات فيوحدوا الطاقات لتحقيق أسمى الغايات وهو حفظ النفس البشرية، فرقت هذه الظروف بعض الاتحادات وقوضت الغالب الساحق من المؤسسات والشركات.
في الوقت الحالي آثر الكثير من البشر الخمول الفكري الباعث إلى التقاعس والتخلف، فكان حقيقٌ علينا طرح هذا السؤال: كيف النهوض؟ وجملة ما في هذا المقال ليست بنصيحة، وإنما داعٍ لوقفة تأمل ولتحد ذاتي لكل فرد كي يكون المآل أفضل من واقع الحال، وحتى ننقذ مستقبلنا من عثرات حاضرنا وماضينا فنتجنب ترديد مقولة «ليس بالإمكان أفضل مما كان». ولإجابة السؤال المثار لا بد من بيان واقع الحال.
في الوقت الراهن فإن كثيرا من الدول المسؤولة عن غالبية إجمالي الناتج العالمي، ومنها السعودية في حجر تام. سبب هذا الحجر الناتج من الجائحة انخفاضا في الطلب على البترول بمعدل الثلث، وقد أدى هذا الانخفاض إلى هبوطٍ في سعر البترول بمعدل الثلثين، مما سبب هبوطاً في أسعار الأسهم عالميا ومحليا، فقد أغلقت الأسهم السعودية بتاريخ 8 مارس (آذار) لهذا العام عند أكبر هبوط يومي منذ عام 2008 بما يعادل 8.3 في المائة، متأثرة بسوق البتروكيميائيات تأثرا ملحوظا، كما توقعت منظمة التجارة العالمية أيضا هبوطاً في معدل التبادل التجاري بين الدول بمقدار 13 في المائة، وتوقعت مصادر اقتصادية أن معدل البطالة في العالم سيزداد مؤثرا على أكثر من 420 ميلون شخص في العالم، ففي الولايات المتحدة فقط أفاد أحد المصادر أن حوالي 46 مليون مواطن أميركي قد يصبحون عاطلين عن العمل.
وتداركاً لهذه الظروف، اتخذت بعض الدول، وفي مقدمتها المملكة، العديد من السياسات المالية (على الصعيد المحلي والدولي) التي تحد من آثار هذه الأزمة على الاقتصاد القومي. وإضافة إلى الحجر الاستباقي التدريجي الذي طبقته المملكة، وإلى ضمان وفرة المعقمات وكمامات الوجه الطبية، آثرت المملكة بحزمة مالية من خزينتها العامة تهدف إلى تخفيف آثار كورونا وذلك عن طريق دعم المصارف والمؤسسات المالية والمنشآت الصغيرة بـ50 مليار ريال، وحزمة مالية أخرى بـقيمة 120 مليار ريال تهدف إلى استقرار سوق العمل، متكفلة بـ60 في المائة من مرتبات العمال وفق شروط معينة لمدة ثلاثة أشهر قابلة للمراجعة. وعلى المستوى الدولي استهل خادم الحرمين الشريفين مبادرة تهدف إلى توحيد الجهود الدولية لمواجهة الظروف الحالية بكفاءة اقتصادية عالية. ويصعب ذكر كل ما قدمته الحكومة السعودية للقطاع الخاص من كثرة الميزات التي تهدف إلى إنعاشه، وهذا يدفعنا إلى إثارة سؤال هام: كيف يصبح القطاع الخاص ذا دور إيجابي داخل عجلة الاقتصاد الوطني في ظل الظروف الراهنة متكاتفا مع الدور الذي تؤديه الحكومة السعودية على الصعيد المحلي والدولي؟
إن الإبداع والتكيف خلال الظروف الراهنة (مع القليل من السيولة المالية) هما السبيل الأنجع لمواجهة الكساد الحالي والمساهمة في الاكتفاء الذاتي، وأيضا السبيل الممكن لتقوية القدرة التنافسية على الصعيد الدولي.
بشكل عام يتألف الاقتصاد الجزئي من مجموعة من الشركات والمؤسسات أو الأفراد الذين يهدفون بشكل أو بآخر إلى تحصيل الربح المادي عن طريق تلبية طلب الجمهور من بضائع أو خدمات، ولتحقيق قوة تنافسية عالية لربحية أعلى. تنتهج مثل هذه الشركات نهج اقتصاد الإنتاج أو السعة الذي يهدف إلى زيادة الإنتاج مع تخفيض متوسط تكلفة الوحدة الواحدة من المنتج، فكان وما زال هذا النهج السائد مستمراً حتى يومنا هذا من قبل بعض الشركات، بل الغالب من الشركات التي تواجه الركود هذه الأيام تعمل وفق هذا الاقتصاد، فما تقدمه من منتجات أو خدمات لا يتلاءم مع الطلب الحالي، ومثاله مؤسسات أو شركات نقل الطلاب التي تعطلت خدماتها لانقطاع الدراسة، ومثاله أيضا الشركات الفندقية التي خلت من قاطنيها بسبب انعدام السياح، وشركات المقاولات وشركات الأنسجة وصناعة السيارات... وعلى ذلك قس، مع استثناء شركات الغذاء والمواد الصحية من المعقمات والكمامات. فالمتأمل في حال هذه الشركات في ظل هذه الأزمة قد يحكم عليها بالهلاك، لكن التريث في الأحكام أولى من الجزم بها.
من رحم الاقتصاد الجزئي وُلِد ما يعرف باقتصاد النطاق، الذي تنتج أو تقدم الشركة من خلاله أكثر من سلعة أو أكثر من خدمة واحدة متشابهة، وذلك بهدف تقليل متوسط التكلفة الإضافية لكل منتج أو خدمة، كما يؤدي تنويع المنتجات أو الخدمات إلى تقليص المخاطر الناتجة عن بيع سلعة أو تقديم خدمة واحدة في السوق. وقد تسبب الظروف القاهرة تغييراً نوعياً وكمياً في مخرجات الشركات لتتناسب مع طلب الأسواق، ففي الحرب العالمية الثانية صنعت شركة فورد الطائرات لصالح الجيش الأميركي الذي كان يخوض الحرب ضد الألمان آنذاك، إضافة إلى صناعتها المشهورة للسيارات، وفي هذه الأيام تعهدت كل من شركتي «رولز رويس» و«دايسون» البريطانيتين بصناعة أجهزة التنفس الطبية ventilators بشكل مستقل أو متكامل مع ما تنتجانه مسبقاً، كما وعدت بعض الشركات الأميركية بعمل المثل على أن يكون تسليم هذه الأجهزة في شهر يوليو (تموز) على الأقل. وقامت شركة «ديور» الفرنسية بصناعة جل المعقمات بدلاً من العطور، كذلك قامت شركة «جيورجيو أرماني» الإيطالية بصناعة المعاطف الطبية الواقية بدلا من الملابس الفاخرة.
وبالرجوع إلى الأمثلة التي وردت مسبقاً، نرى أنه من الممكن أن تدخل شركة نقل الطلاب في سوق توصيل الطلبات عوضاً عن توصيل الطلبة، فتقوم بأحد أمرين: سد العجز الحاصل في السوق، أو المنافسة مع بقية مقدمي خدمة توصيل الطلبات. وكذلك الحال بالنسبة للفنادق، فمن الممكن لها أن تتحد أو تتعاقد مع المستشفيات والمختبرات الأهلية لتقديم خدمة الحجر الصحي وفق أعلى المعايير الصحية والفندقية؛ غير أن هذا الحل ليس عمليا لكل الفنادق وغير مجد اقتصاديا إذا قامت به كل الفنادق. أما ما يتعلق بشركات المقاولات، فمن الممكن لها أن تؤجر عمالها للشركات التي تعمل ليل نهار لسد الطلب على المنتجات الطبية، كما يمكنها تأجير سياراتها لتسد العجز الحاصل في التوزيع بين الصانع والموزع أو الموزع والبائع.
وآخر هذه الأنواع المذكورة في المقال هو اقتصاد المشاركة الذي يؤثر سلباً وإيجاباً في ظل هذه الظروف، ونركز على الدور الإيجابي الذي يلعبه وذلك من ثلاث نواحٍ، أولا المشاركة في الموارد، فعندما أمسكت كثير من الدول عن عطائها للآخرين كانت وما زالت السعودية سباقة إلى التبرع بالأدوات الطبية للدول الصديقة مثل فلسطين واليمن، والتخصيص هنا لا يعني إنكارنا لمجهودات بعض الدول أو الأفراد الذين قدموا المشاركات في صور مالية وغير مالية كما سيتم بيانه في النقطة التالية. ثانيا مشاركة التكنولوجيا، ففي تاريخ 30 مارس لهذا العام جعلت شركة ميدترونيك Medtronic تصاميم ومخططات الدوائر الكهربائية وإجراءات التركيب لجهاز التنفس الصناعي Puritan Bennett 560 (PB 560)) متاحة ومعروضة لعموم المصنعين في الشبكة العنكبوتية، وبسبب هذه المشاركة أصبح من الممكن للشركات في السعودية تصنيع هذا الجهاز الضروري وتوفيره في أوقات قياسية، كذلك فعلت جامعة أوكسفورد في مارس حيث طورت تقنية اختبار سريع ودقيق يمكن من خلاله فحص وجود الفيروس من عدمه في الدم في وقت قياسي، وتعمل هذه الجامعة على تطوير جهاز ملائم لهذا النوع من الفحوصات.
ثالثاً، مشاركة الخبرة أو الدراية know - how، ومثاله التحالف الحاصل بين شركة «مرسيدس بنز إف1» Mercedes Benz F1 مع مستشفى جامعة «يو سي إل إتش» بلندن UCLH الذي طور جهاز الضغط الهوائي الإيجابي المستمر (CPAP) المسمى بـUCL - Ventura breathing aid، وقام هذا الاتحاد أيضا بمشاركة تصاميم الجهاز عالميا مع عموم المصنعين لمواجهة أزمة كورونا.
إن سبيل الإبداع والتكيف مع الظروف الراهنة هو السبيل الأنجع في مواجهة الكساد الحالي والمساهمة في الاكتفاء الذاتي والمنافسة على الساحة الدولية. وإن المرونة في التغير من اقتصاد الإنتاج إلى اقتصاد النطاق، مع الاستفادة مما يقدمه اقتصاد المشاركة، قد يعطي فرصة للقطاع الخاص للانتعاش بدل البقاء على الإنعاش الذي تقدمه الحكومة.
- محلل اقتصادي سعودي