تنفس اللبنانيون الصعداء وهم يشاهدون على شاشات التلفزة وقائع انتخاب رئيس جديد لجمهوريتهم المتعثرة، بعد أكثر من عامين ونيف على الشغور الرئاسي، عقب انتهاء ولاية الرئيس السابق ميشال عون في 31 أكتوبر (تشرين الأول) 2022، دون اختيار خلف له.
جاء انتخاب الرئيس الجديد جوزيف عون بعد تطورات مفصليَّة وبالغة الأهميَّة على مستوى المنطقة برمتها، وعلى المستوى اللبناني أيضاً، وقد تمثلت بالانكسارات التي تعرَّض لها «محور المقاومة» عقب الضربات المتتالية لـ«حزب الله» اللبناني، بما فيها اغتيال أمينه العام السيد حسن نصر الله، وعدد من قياداته العليا وكوادره الوسطى، وصولاً إلى سقوط نظام حزب البعث في سوريا بقيادة بشار الأسد، بعد أكثر من خمسين عاماً على قيامه.
ويواجه العهد الجديد جملة من التحديات، لعلَّ أبرزها يتمثَّل في ردع إسرائيل عن مواصلة انتهاكاتها للسيادة اللبنانيَّة، والالتزام بقرار مجلس الأمن الدولي 1701 الصادر عام 2006، وبمضمون اتفاقية وقف إطلاق النار التي تم التوصل إليها في السابع والعشرين من نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي. وبموازاة التحدي الخارجي، ثمة تحديات أخرى تتصل ببسط سلطة الدولة ونشر الجيش، وسحب السلاح من جنوب نهر الليطاني وشماله إنفاذاً للاتفاق.
إن أي قراءة متأنية في خطاب الرئيس جوزيف عون الذي ألقاه في المجلس النيابي اللبناني عقب انتخابه، تؤكد -بما لا يقبل الشك- أن لبنان أمام منعطف جديد، وأن تشديد الرئيس المنتخب (وتكراره العبارة مرتين متتاليتين) فيما يخص احتكار الدولة للسلاح، هو خطاب رسمي لبناني، يكاد يكون الأول من نوعه من أعلى رأس الهرم، ولم يحدث أن أٌعلن عنه سابقاً.
والتحوُّل السياسي الكبير الذي تعكسه هذه العبارة يمكن مقارنته مع المواقف التي كان يعلنها الرئيس السابق ميشال عون، من تأييد لبقاء سلاح «حزب الله»، ومن عدم امتلاك الجيش اللبناني القدرات الدفاعيَّة الكافية لمواجهة إسرائيل، وقد أدَّى إلى تطابق كامل بين خطاب الدولة اللبنانيَّة -إذا صح التعبير- وخطاب «حزب الله»، وهو ما ولَّد الاضطراب الكبير في علاقات لبنان العربيَّة، وأدى إلى فقدان هامش المناورة السياسيَّة التي كان يُعوِّل عليها في فترة من الفترات.
الرئيس جوزيف عون خاطب اللبنانيين من خلال التعرُّض للقضايا التي تؤرقهم، ومن خلال تقديم الوعود للمسائل التي لطالما كانوا يتطلعون إليها: قيام دولة قوية وقادرة، تمتلك وحدها السلاح وقرار الحرب والسلم، قضاء نزيه ومستقل، الجميع تحت سقف القانون، الحفاظ على الحريات العامة، مكافحة المخدرات والبؤر الأمنيَّة والتهريب، الشراكة مع الطرف الآخر في السلطة التنفيذيَّة -أي رئيس الحكومة- وليست الخصومة، كما كان يفعل بعض الرؤساء السابقين، ترشيق الإدارة العامة وتحولها نحو الرقمنة الإلكترونية، دعم المدرسة الرسمية والجامعة اللبنانيَّة والحفاظ على التعليم الخاص، التركيز على العلم (كررها ثلاث مرات)، إعادة الإعمار وتوطيد علاقات لبنان العربيَّة، الحوار الندِّي مع سوريا وبناء علاقات جديدة، معالجة مسألة النزوح السوري، التأكيد على حق العودة للفلسطينيين ومنع التوطين، وبسط سلطة الدولة على المخيمات.
هذه أبرز العناوين التي تضمَّنها خطاب القَسَم الرئاسي، والتي تُشكِّل خريطة طريق للعهد الجديد، وهي تمثِّل تحديات يُعتبر البعض منها مزمناً ولم يجد حلولاً له على مدار السنين، إن لم نقل على مدى عقود، بسبب التعقيدات الداخليَّة والتدخلات الخارجيَّة والظروف التي لم تكن يوماً مواتية لتغيير الواقع القائم في لبنان.
ما يحصل في لبنان راهناً ممكن أن يُشكِّل فرصة جديَّة بالفعل لإصلاح البلاد، وفتح الآفاق أمام حقبة جديدة بالفعل لطالما تاق إليها اللبنانيون بمختلف تلاوينهم ومشاربهم، وهم الذين تعبوا من الحروب العبثيَّة المتكررة. والرهان أن يعود العرب إلى لبنان وأن يعود لبنان إلى العرب، فهوية لبنان العربيَّة حُسمت في اتفاق الطائف، والآن آن الأوان للالتحاق بركب الحضارة الذي كان لبنان متقدماً فيه بصورة دائمة، وتخلَّف عنه لمائة سبب وسبب.