وائل مهدي
صحافي سعودي متخصص في النفط وأسواق الطاقة، عمل في صحف سعودية وخليجية. انتقل للعمل مراسلاً لوكالة "بلومبرغ"، حيث عمل على تغطية اجتماعات "أوبك" وأسواق الطاقة. وهو مؤلف مشارك لكتاب "أوبك في عالم النفط الصخري: إلى أين؟".
TT

عندما يغيّر الكبار مواقفهم

لقد شاهدت على مر السنين كثيرًا من العنجهية في سوق النفط من قبل الدول أو الشركات المنتجة. وعندما نتحدث عن التعاون، فالكل في وقت الرخاء يسعى وراء مصلحته.
وفي أوقات الرخاء عندما أصبحت الولايات المتحدة المنتج الأول للنفط في العالم، وانفتحت أمامهم الأسواق العالمية بعد عقود من الحظر على التصدير، أصبحت منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك) بلا أهمية لدى الشركات، وأدارت الولايات المتحدة ظهرها لوارداتها النفطية من هذه الدول، وعلى رأسها السعودية التي انخفضت وارداتها من مليون برميل في أكتوبر (تشرين الأول) 2018 إلى أكثر بقليل من 400 ألف برميل في يناير (كانون الثاني) 2020.
أما روسيا فكانت حليفاً رئيساً في تحالف «أوبك+»، ثم أدارت ظهرها لهذا التحالف في السادس من مارس (آذار) 2020، ورفضت التنسيق لتخفيض 1.5 مليون برميل يومياً، وقررت أن تنتج بلا حساب.
لقد تغير الكبار، وهرولوا لعقد اتفاق عالمي جديد لخفض الإنتاج بسبب ما فعلته السعودية في شهر واحد. الكل لم يكن يتوقع أن السعودية سوف تغير استراتيجيتها النفطية، وتعلن عن إطلاق برنامج لزيادة طاقتها الإنتاجية القصوى بمليون برميل إلى 13 مليون برميل يومياً، وتنتج 12.3 مليون برميل، وتصدر منها نحو 10 ملايين برميل في أبريل (نيسان)، من 7 ملايين برميل في مارس (آذار). وتسبب هذا في هبوط أسعار النفط بشكل كبير من 50 دولاراً إلى 32 دولاراً لبرنت. أما خام غرب تكساس فهو لا يزال في حدود 23 دولاراً، وهذا رقم لا يشجع أي منتج في الولايات المتحدة على مواصلة الإنتاج.
وبفضل كل هذا تحولت الولايات المتحدة جذرياً، وأصبح الرئيس الأميركي دونالد ترمب المدافع الأول عن أسعار نفط أعلى، وأصبحت شركات النفط الصخري تبحث تخفيض إنتاجها طواعية، واللحاق باتفاق «أوبك+» ومجموعة العشرين التاريخي، الأحد الماضي، لتخفيض نحو 13.4 مليون برميل يومياً (9.7 مليون من (أوبك+)، و3.7 من مجموعة العشرين).
وعقدت شركات النفط الصخري اجتماعاً تاريخياً آخر، أمس، لبحث إمكانية دخولها في الاتفاق من خلال مجموعة العشرين، وخفض إنتاجها طواعية، وهذا أمر لم يكن من الممكن تخيله في مطلع العام الحالي، إذ إنها بذلك تخلت عن كل ما كانت تنادي به، ولحقت بركب دول «أوبك»، وأصبحت تدعو لتنسيق مشترك بينها للإنتاج. بل إني أتذكر موقفهم من سياسة «أوبك» في 2014، عندما انخفضت الأسعار نتيجة دفاع السعودية عن الحصة السوقية، وتبعتها «أوبك» في ذلك. لم يكن الجميع على استعداد لفعل شيء، بل توقعوا أن تحاول «أوبك» الحفاظ على سعر 100 دولار حينها.
ولا يمكن لومهم في هذا التحول الكبير، إذ إن نحو 40 في المائة من هذه الشركات ستعجز عن تسديد ديونها خلال عام من الآن، إذا ما ظلت أسعار النفط عند مستوى 30 دولاراً. وبناء على دراسة لشركة «ريستاد» البحثية في مجال النفط، فهناك نحو 500 شركة قد تواجه الإفلاس والتوقف مع الأسعار عند 20 دولاراً.
وبحسب ما أوضح الرئيس التنفيذي لشركة «بايونير» للنفط الصخري، سكوت شيفيلد، في حوار مع قناة «بلومبرغ»، فإن هذه الشركات لا تستطيع مواصلة عملها عند سعر 23 دولاراً، ولهذا يرى أن عليهم التدخل لخفض إنتاجهم بنحو 20 في المائة، حتى يرتفع السعر بشكل أكبر.
المشكلة أنه لم يعد هناك أماكن لتخزين النفط في العالم، وخلال 6 أسابيع ستمتلئ المخازن، ولن يكون هناك مجال لشركات النفط الصخري للمواصلة، وهذا ما جعل شيفيلد يقول إن الشركات عليها تخفيض الإنتاج.
ولكن نعود إلى مسألة المصالح الخاصة والعامة، إذ إن ثقافة الشركات والسوق لا تعرف المصالح العامة، والكل يحركه الربح ومصالحه الشخصية الضيقة في أميركا.
ولهذا فإن شركة مثل «ماراثون» مترددة في التخفيض لأن هذا سيضطرها إلى إقفال الآبار الجيدة، واللجوء إلى الآبار الضعيفة لمواصلة الإنتاج، وهذا سيجعل عودة هذه الآبار للإنتاج بعد فترة أمراً صعباً فنياً. وكان اجتماع أمس مليئاً بالخلافات بين الشركات على التخفيض. وذكر رئيس شركة «إنتربرياس»، جيم تيك، أنه لم يرَ في حياته «خزانات نفط تمتلئ»، مهاجماً الباقين.
لقد أصبحت الولايات المتحدة المنتج الأول في العالم، وصاحب المصلحة الكبرى في ارتفاع أسعار النفط، ولكن الأميركيين لا يعرفون إلى اليوم آلية قيادة السوق. وقدمت السعودية خلال 4 أيام، من خلال «أوبك+» ومجموعة العشرين درساً لهم في كيفية فعل ذلك، بعد إجبار الجميع على الوصول إلى اتفاق عادل للكل.
لكن يجب أن يستيقظ العالم من النظريات المثالية وآلية السوق، فهذه الآلية لا يجب أن تنطبق على سلعة حيوية مهمة مثل النفط الذي يدخل في عصب هذه الحضارة. ويحتاج العالم إلى منظومة جديدة، بدلاً من حملات النفاق الإعلامية التي تهاجهم «أوبك»، ثم تسكت عندما تتحول أميركا إلى «أوبك» فعلياً، وتخطط شركاتها لخفض الإنتاج طواعية بصورة مشتركة، من خلال هيئة سكك حديد تكساس، وهو ما كان الأميركيون ينتقدون «أوبك» على أساسه.
عموماً، اتفاق النفط التاريخي لـ«أوبك+» ليس كافياً لموازنة السوق مثل ما هو واضح من أسعار النفط، والهبوط في الطلب سيكون في حدود 20 مليون برميل، إن لم يكن أكثر. وقد فعلت السعودية وروسيا وباقي «أوبك+» كل ما في وسعهم. والآن، جاء دور شركات أميركا لفعل شيء.