سليمان جودة
رئيس تحرير صحيفة «الوفد» السابق. كاتب العمود اليومي «خط أحمر» في صحيفة «المصري اليوم» منذ صدورها في 2004. عضو هيئة التحكيم في «جائزة البحرين للصحافة». حاصل على خمس جوائز في الصحافة؛ من بينها: «جائزة مصطفى أمين». أصدر سبعة كتب؛ من بينها: «شيء لا نراه» عن فكرة الأمل في حياة الإنسان، و«غضب الشيخ» عن فكرة الخرافة في حياة الإنسان أيضاً.
TT

القضية التي يجددها دائماً زمن الوباء!

عاش برنارد شو يتحسس صلعته العريضة، ويداعب شعر لحيته الكثيفة، ثم يطلق تنهيدة عميقة ويقول: ما بين لحيتي ورأسي، هو نفسه الحاصل بين أرجاء العالم المتفرقة وأنحاء الأرض المتناثرة: غزارة في الإنتاج وسوء في التوزيع!
وهو بسخريته اللاذعة التي اشتهر بها بين الأدباء الإنجليز، كان يتمنى لو أن بعض شعرات من لحيته قد نبتت في صلعة الرأس اللامعة، فتتحقق العدالة الواجبة في توزيع الشعر بين اللحية وبين الرأس، بدلاً من أن تكون الغزارة هي ما يميز اللحية، والشح هو ما يتسم به الرأس!
وكانت لقطة ساخرة منه كعادته، لكنه هذه المرة أخذ السخرية من نطاقه الشخصي، وأخرجها من حدود لحيته ورأسه، وأبعدها عن ذاته وشخصه، وإنْ بدت شخصية وذاتية عند الوهلة الأولى، ليتعرض بها لقضية أعم وأشمل هي قضية العدالة الاجتماعية، ليس في مجتمعه الإنجليزي المحدود، ولكن في أركان العالم على اتساع رقعته في كل اتجاه!
والسؤال هو: هل كان شو يمتعض فقط مما صار إليه حال الصلعة في رأسه عند المقارنة بينها وبين اللحية في وجهه؟! وهل كان فقط أيضاً يدعو الله لو كان الحال على مستواه غير الحال فتتوازن زوايا الصورة؟! هل كانت هذه هي كل الحكاية، أم أنه كان يرى ما في الأرض من فقر في مقابل الغنى فيتألم ويأسى؟! وهل كان يأمل لو أن الصورة الساخرة التي رسمها للمشهد العام، الذي كان يطالعه كلما راح يتطلع من حوله إلى بلاد الدنيا، قد انقلبت من سوء توزيع للإنتاج الغزير إلى عدالةٍ ظل حياته يدعو إليها؟! هل كانت المسألة عنده مجرد لحية وصلعة، أم كانت أرحب وأوسع؟!
المؤكد أن العام عنده كان يتقدم الخاص ويسبقه، وأن الصلعة لم تكن سوى رمز إلى بلاد فقيرة، أو أشخاص فقراء في بلد هنا وبلد هناك، وأن اللحية كانت بدورها رمزاً إلى بلاد غنية، أو أشخاص أثرياء في هذا البلد أو في ذاك على الخريطة!
ولا تختلف سخرية شو من حيث معناها عما كان الإمام علي بن أبي طالب يقوله، عن أنه: ما جاع فقير إلا بتخمة غني!
ولكن السؤال في ظل المعنيين، معنى سخرية أديب الإنجليز، ومعنى عبارة الخليفة الراشد الرابع، يظل عما إذا كان المعنى في الحالتين يعطي الفقراء حق الخروج على الأغنياء، ليحصلوا على حقهم في الثروات بالقوة، من دون سند من عرف أو قانون؟!
لا عقل يقول بهذا طبعاً، ولا قانون يقره، ولا منطق يبرره، ولكن العقل والمنطق والقانون كلها تقول إن فكرة الدولة بالمعنى الوارد في نظرية العقد الاجتماعي التي تعرفها العلوم السياسية، قد نظمت العلاقة بين الطرفين، الأغنياء من جانب والفقراء من جانب آخر. نظمت النظرية هذه العلاقة، وقالت بأن يعود جزء معلوم من ثراء الأثرياء على فقراء المجتمع، من دون أن يكونوا في حاجة إلى أن يخرجوا على أحد، ولا أن يعتدوا على ثروة أحد، ولم تصل علوم السياسة إلى نظرية تنظم الأمر بما هو أفضل بعد!
والفكرة هي في عقد غير مكتوب بين الدولة في ناحية، وبين المواطن الذي يحمل جنسيتها في ناحية أخرى. عقد يتكون في كل أحواله من مادتين اثنتين في المجمل العام، مادة تضع على الطرف الأول واجب رعاية الطرف الثاني على أرضه، وتوفير ما يحفظ حياته ويحقق أمنه، ثم مادة ثانية تضع على الطرف الثاني، في المقابل، أن يعترف بحق الدولة في ممارسة تجليات السلطة على الأرض، ما دامت تنهض بما يقول به العقد، وبما ينص عليه في المادة التي تخصها كطرف أصيل فيه!
والفكرة أيضاً هي أن الوصول إلى المعادلة المتوازنة التي كان شو يفتقدها بين لحيته ورأسه في جسده، ثم على الأرض بين الناس من حوله، لا يمكن أن ننتظره رهاناً على تطوع يبادر به قادر، ولا على تبرع قد يسارع به غني يملك من المال الكثير!
الرهان على التطوع أو التبرع ليس الحل، لأن التطوع اسمه تطوع، والتبرع اسمه تبرع، وكلاهما مسألة اختيارية تماماً، نشكر صاحبها إذا أقدم عليها، ولا نلومه إذا لم يبادر بها. إنها قضية تخص صاحب المال وحده، وليس من حق أحد أن يناقشه في أنه لم يتطوع ولا في أنه لم يتبرع!
وفي زمن الوباء الذي نعيشه، وفي زمن كل وباء من قبل، كانت القضية تتجدد وتعود إلى دائرة الجدل من جديد، وكان النقاش يدور عما إذا كان على القادرين في كل مجتمع أن يبادروا إلى التطوع بشيء مما عندهم، لصالح الذين تزداد معاناتهم تحت وطأة الوباء، أم أن ذلك هو دور الدولة التي عليها أن تمارسه، فلا تتخلى عن مواطنيها الذين يربطهم بها عقد اجتماعي نشأ بين الطرفين؟!
وكان جواب الشق الثاني من السؤال هو الصحيح في كل زمان، منذ كان لنظرية العقد وجود حي في حياة الناس، لأن الرهان على تطوع أو تبرع من القادرين، هو رهان على شيء قد يجيء بحكم طبيعته وقد لا يجيء، وبالتالي هو رهان على شيء غير مضمون، كمن يراهن على عصفور على شجرة، ولكن المضمون هو دور الدولة الذي يجيء في كل الأحوال ولا يغيب!
وكانت الضرائب هي الكلمة الساحرة في هذه القصة كلها، لأنها صيغة معاصرة تأخذ من مال القادر بنسبة معلومة، من دون أن تنتظر تبرعاً ولا تترقب تطوعاً، ولأنها توفر ما تستطيع به الدولة أن تمارس طبيعة الدور، ولأنها تعفي القادرين في زمن الوباء من حرج عدم التبرع والتطوع!
وقد كانت الضرائب العادلة هي الأداة القادرة على تحقيق عدالة اجتماعية افتقدها برنارد شو في العالم، ورأى في غيابها نوعاً من الخلل الذي قام بين لحيته ورأسه، ثم كانت الضرائب العادلة هي نفسها الكفيلة بألا يجوع فقير في وجود غني إلى جواره في المجتمع. كانت كذلك لأنها لا تنكر على الغني غناه، ولكن تنكر عليه ألا يؤدي حق الدولة في ماله، أو بمعنى أدق في أرباحه المتحققة من وراء العمل الذي يمارسه بهذا المال، بقدر ما تنكر الشيء نفسه على كل صاحب دخل مشروع لا يؤدي عنه ضرائبه التي فرضها القانون!
وقد جاء وقت صار فيه كل صاحب مال متهماً إلى أن يثبت العكس، وجاء وقت بدا فيه الثراء في مجتمعات كثيرة، خصوصاً المجتمعات العربية من دون باقي المجتمعات، كأنه شيء يعيب صاحبه. ولم يكن الثراء عيباً في أي وقت، ولا كان الغنى تهمة في أي زمن، ولكن العيب كله كان في مجتمع لا ينظم علاقته بأفراده، فيأخذ من أثريائه ليعطي فقراءه، بغير أن يكون ظالماً في الأخذ أو في العطاء!
عاشت العدالة الاجتماعية تؤرق المجتمعات كلها، ولكنها كانت تؤرقها أكثر في أزمنة الأوبئة التي تهاجم العالم كل فترة، والظاهر أنها قضية سوف ترافق البشر مرحلة من الحياة بعد مرحلة، ولو عاش شو إلى اليوم لكان لا يزال يشكو عدالة التوزيع بين رأسه ولحيته!