أخبار دولية وعربية
السفن الحربية العملاقة في ظروف الوباء
السفن الحربية العملاقة في ظروف الوباء

< بالاتفاق مع «بلومبيرغ»
كنت قبطاناً بحرياً في حياتي المهنية العسكرية، وكنت قائداً مسؤولاً عن مجموعة من المدمرات، كما كنت أميرالاً للمجموعة الضاربة المرافقة لحاملة الطائرات النووية «يو إس إس إنتربرايز». وخلال مسيرتي المهنية، اضطررت لاتخاذ كثير من القرارات الصعبة في البحر في زمن السلم وزمن الحرب، غير أنني لم أواجه أبداً ذلك النوع من الخيارات الصعبة الذي تحتم على القبطان بريت كروزييه، قائد حاملة الطائرات الأميركية «يو إس إس تيودور روزفلت»، اتخاذه في الآونة الأخيرة.
ففي مواجهة انتشار فيروس كورونا بين أفراد طاقم حاملة الطائرات، البالغ عددهم 5 آلاف بحار، تواصل القبطان مع التسلسل القيادي في الحاملة، وطلب الإذن بإيقاف المهمة المكلفة بها الحاملة لتسيير الدوريات في المحيط الهادي وبحر الصين الجنوبي، والتوقف التام في ميناء غوام، من أجل تطهير حاملة الطائرات، وإنقاذ طاقمها من المخاطر الصحية «غير الضرورية» المحدقة. ولقد أعفته القيادة البحرية الأميركية من قيادة حاملة الطائرات. لكن كيف يمكننا تقييم قراراته في مواجهة العدو غير المرئي، لكنه فتاك للغاية؟
دعونا نبدأ بمحاولة فهم طبيعة الحياة على متن السفينة الحربية التابعة للقوات البحرية. ولنفكر في مطبخ أحد المنازل في الضواحي، فهو مطبخ بمساحة معقولة، مع طاولة متوسطة الحجم ومسطحات من الرخام لإعداد الطعام. وهذا تقريباً نفس حجم المطابخ المعروفة في سفن البحرية الأميركية، فضلاً عن مقصورات النوم التي يأوي إليها البحارة للاستراحة والنوم. وفي مثل هذه المساحة، يعيش 12 بحاراً موزعين على أسرة من طابقين، مع خزانة ملابس ضيقة لكل بحار منهم. وهم يشتركون في نفس دورة المياه، وحوضين، وصوان أو اثنين لكل منهم.
وعندما يصطف البحارة للحصول على وجبات الطعام، يكون ذلك في صف بشري طويل عبر ممر ضيق؛ حيث يحتشد الجميع على جانب واحد كي يسمحوا للآخرين من زملائهم بالمرور من المقاعد المخصصة لهم وإليها. حتى في نقاط المراقبة على سطح السفينة ومركز معلومات القتال، يصطف الجميع جنباً إلى جنب بلا تباعد.
وهذا الموقف يناقض تماماً وسائل التباعد الاجتماعي المدنية المعمول بها وفق الإجراءات الاحترازية لمواجهة الوباء المتفشي. قال الكاتب الإنجليزي اللامع صمويل جونسون، وهو من كتّاب القرن الثامن عشر، واصفاً الخدمة في البحرية الملكية البريطانية، إنها أشبه ما تكون بالسجن، مع احتمال الغرق في أي لحظة. غير أن الحياة على متن السفن الحربية الحديثة أبعد ما توصف بالسجون بطبيعة الحال، لكنني أعتقد أن الفكرة العامة قد وصلتكم.
ومن ثم، تحولت مقصورات الاستراحة على متن حاملة الطائرات، بكل أسف، إلى مقصورات تكاثر فيروس كورونا وانتشاره. وعندما علم القبطان كروزييه للمرة الأولى بوجود حالات قليلة من الإصابة بالمرض، لا بد أنه شعر بخفقان شديد في قلبه؛ حيث إن المخاطر بالغة الارتفاع من انتشار الإصابة بين كثير وكثير من أفراد الطاقم. وفي وقت موجز للغاية، صار لديه 20 حالة إصابة مؤكدة، ثم أصبحوا 50 حالة، ثم 100 حالة. وكان أطباء الحاملة، الذين كانوا يتشاورون مع المؤسسة الطبية البحرية في الولايات المتحدة، سوف يوصون من دون شك بفعل كل ما يلزم مما جرى تجربته مسبقاً على متن السفن السياحية في مثل هذه الظروف؛ من عزل الحالات المصابة، وعلاجها بأفضل الوسائل المتاحة، «برغم أن حاملة الطائرات تملك عدداً محدوداً من أفراد الخدمات الطبية على متنها»، مع تباعد الآخرين بعضهم عن بعض قدر الإمكان، وإجراء الاختبارات على أكبر عدد ممكن منهم.
وتكمن المشكلة بالطبع، على العكس من سفن الرحلات السياحية العادية، في أن الركاب يحق لهم التجول بحرية في غرفهم الخاصة، غير أن مقصورات الاستراحة، وممرات تناول الطعام، ومحطات المراقبة، ومراكز المعلومات على متن حاملة الطائرات مصممة من أجل التواصل عن قرب، وليس التباعد. ومما يزيد من تفاقم الأوضاع، أن الجميع يعملون على متن حاملة طائرات تعمل بالطاقة النووية، ومحملة بوقود الطائرات النفاثة، والمتفجرات العالية، ومختلف أنواع القنابل والصواريخ.
من المؤكد تماماً أن القبطان بريت كروزييه يدرك أن الأولوية دائماً لتنفيذ المهمة المكلف بها. ولقد أقرّ في خطابه المرسل بأنه إن كنا في حالة حرب حقيقية، كان سوف يبذل قصارى جهده بكل بساطة، على أمل أن تكون لدى أغلب المصابين عنده أعراض خفيفة فقط، ويمكنهم الذهاب إلى القتال في حالة ضعيفة نسبياً، مع المقدرة على مواصلة القتال. لكن حاملة الطائرات «يو إس إس تيودور روزفلت» لم تكن متجهة إلى الحرب، وهي الظروف التي ترفع الأولوية لصحة أفراد القوة القتالية أولاً. وفي هذه الحالة، كان الخيار الاستثنائي هو إخلاء طاقم الحاملة (إخلاء الطاقم بأكمله باستثناء 10 في المائة، اللازم لتشغيل المفاعل النووي وتطهير السفينة)، مع الحفاظ على السفينة قيد التوقف في ميناء غوام لمدة أسبوعين كاملين على الأقل.
ومع شعوري في كثير من الأحيان بمدى الفخر الذي يغلف الانطلاق بحاملة الطائرات لتنفيذ المهام المكلفة، لا أستطيع تصور ذلك الشعور الفظيع بالتوقيع على مثل ذلك الخطاب الذي أرسله القبطان كروزييه في تلك الظروف. لكنه قام بالاختيار الصحيح، واتخذ القرار السليم. ولذلك، فإنني فوجئت تماماً عندما علمت بقرار القيادة البحرية إعفاءه من مهامه. إننا في حاجة إلى تفهم مزيد من المعلومات التي تحيط بهذا القرار، على اعتبار اهتمام وعناية القبطان الواضحة بأفراد طاقم الحاملة تحت قيادته. ويعتبر هذا الخيار الصعب أحد أقسى القرارات التي يمكن اتخاذها من القادة العسكريين حال تعاملهم مع فيروس كورونا.
ولنتصور أن الفيروس الفتاك قد شاع وانتشر بين أفراد طاقم إحدى الغواصات الأكثر ضيقاً وإحكاماً، الحاملة للصواريخ الباليستية. أو بين طاقم إحدى صوامع الصواريخ الباليستية الأرضية، أو لدى قوة التأهب على متن إحدى الطائرات القاذفة الاستراتيجية، أو بين مقر القيادة العسكرية الأميركية في أفغانستان؛ حيث قضيت كثيراً من فترات خدمتي العسكرية قائداً لقوات حلف الناتو هناك. فطوال حياتنا العسكرية، دائماً ما تكون المخاطر كبيرة، والحلول عسيرة، ولا سيما الوحدات العسكرية المكلفة بالمهام القتالية المباشرة أو الذين في وضعية التأهب النووي القصوى!
- بالاتفاق مع «بلومبرغ»