د. عبد الله الردادي
يحمل الردادي شهادة الدكتوراه في الإدارة المالية من بريطانيا، كاتب أسبوعي في الصفحة الاقتصادية في صحيفة الشرق الأوسط منذ عام ٢٠١٧، عمل في القطاعين الحكومي والخاص، وحضر ضيفا في عدد من الندوات الثقافية والمقابلات التلفزيونية
TT

اختراعات الأوقات الصعبة

الحاجة أم الاختراع، مقولة أثبتت صحتها في كثير من الحالات، وما يحدث الآن في العالم من التفات القوى تجاه العلوم لتطوير اللقاحات لمكافحة فيروس «كورونا»، أمر غير مستغرب. فالحاجة الماسة هذه الأيام تكمن في إيقاف الفيروس الذي اجتاح العالم بأكمله وغيّر حياة السواد الأعظم في الدول. والاختراعات البشرية لطالما ارتبطت بالأوقات الصعبة، وهي الأوقات التي تنقل الاختراعات من كونها خيارات وترفا إلى مكانة تكون فيه الفارق بين الحياة والموت، أو الهزيمة والانتصار.
وكثير من الاختراعات الجوهرية ذات المنافع الاجتماعية والاقتصادية كانت بسبب الحروب أو الأزمات، فعلى سبيل المثال وعلى الرغم من كل القتل والدمار الذي سببته الحرب العالمية الثانية، فإنها قدمت كذلك تقنيات خدمت البشرية جمعاء. ولعل أهمها تقنيات الطيران التي تطورت بشكل متسارع إبان الحرب، فانتشرت الطائرات الحربية ذات المحركات النفاثة والتي تستخدم تقنياتها اليوم الطائرات المدنية، كما طورت تقنيات معادلة الضغط والتنفس للطيارين، واختُرع الرادار وهو نواة أنظمة الدفاع الجوية، وبه تستخدم اليوم أنظمة الهبوط للطائرات المدنية. بل حتى إطارات الطائرات طورت في الحرب العالمية الثانية من اللدائن الصناعية بدلا من المطاط الطبيعي المستخدم سابقا، وذات التقنيات تستخدم اليوم في إطارات السيارات. وطورت كذلك زيوت المحركات بشكل يزيد فاعلية محركات الطائرات وهي التقنية التي تستخدم حتى يومنا هذا. كما أن بداية الطائرات المروحية كانت في الحرب العالمية الثانية، وحتى مع كونها لا تزال تستخدم للأغراض العسكرية، إلا أن استخدامها للأغراض السلمية لا يستهان به سواء في إطفاء الحرائق أو في الإسعاف الجوي.
كما أن الحرب العالمية الثانية قدمت الطاقة النووية، صحيح أنها ظهرت بصورة بشعة في القنبلة الذرية، إلا أن هذه التقنية تطورت كثيرا حتى أصبحت الطاقة النووية أحد أهم مصادر الطاقة في العالم اليوم. والعجيب أن هذه التقنية كانت سببا في الأزمة الأمريكية السوفيتية بما يعرف في الحرب الباردة التي كان العالم حينها يتوقع معركة نووية في أي وقت. هذه الحرب التي قدمت للبشرية أعظم اختراعات العصر الحديث وهو الإنترنت. حيث أنشأ الأمريكيون هذه الشبكة المسماة حينها (آبرانت) بهدف تقليل مركزية تخزين المعلومات الحساسة، وكل ذلك خوفاً من تعرض أميركا لهجوم نووي من الاتحاد السوفيتي. وبسبب الحرب الباردة التي تحولت إلى حرب جاسوسية بين القوتين العظميين، تطورت صناعة الإلكترونيات بشكل كبير، فتطورت الكاميرات لتصبح أصغر حجما وأكثر دقة لاستعمالها للأغراض الجاسوسية. كما بدأت حرب الفضاء بين القوتين بما سمي حينها (حرب النجوم) وأطلقت الولايات المتحدة أقمارها الصناعية في الفضاء لهدف غير معلن وهو الحرب الجاسوسية، إلا أن هذه الأقمار هي التي قدمت لنا اليوم أنظمة تحديد المواقع التي استخدمت بداية للأغراض العسكرية، ومن ثم انتقلت إلى أجهزة الخرائط الإلكترونية، وتكاد تكون متاحة في جميع الهواتف الذكية اليوم.
إن حافز الحروب والأزمات حافز لا يستهان به في شحذ همم الأمم للتقدم، وما نراه اليوم من نشاطات علمية ومنح بحثية وتعاون دولي للقضاء على فيروس «كورونا»، قد يسبب نقلة هائلة في الطب والعلوم الحياتية، ولكنه كذلك قد يسبب طفرات علمية في مجالات أخرى كما كان الحال في الأزمات السابقة. وهذه الطفرات العلمية قد تكون الفارق في تطور الدول، فألمانيا وعلى الرغم من خسارتها الحرب، فإنها لا تزال منتفعة بتقدمها العلمي الذي اكتسبته أيام الحرب، وبما تملكه من خبرة ومخزون معرفي أصبحت من أهم الدول الصناعية في العالم، معتمدة بصناعاتها على تقدمها التقني بشكل رئيسي. وهذه الأيام وعلى الرغم من كونها أياما عصيبة على العالم - كما كان الحال أيام الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة - فإنها ستنزاح بمشيئة الله، وتبقى العلوم بعدها لتطور البشرية كما طورتها سابقاتها من الحروب والأزمات.