تمرُّ البشرية بسبب فيروس «كورونا» بأزمة نفسية، تجعلها تغرق في السيناريوهات المتشائمة والسوداوية لمستقبلها بعد نهاية الأزمة. إن منظر الطائرات الجاثمة في مساراتها والمدن الخاوية الموحشة، يدفع إلى هذه التصورات المظلمة، ولكن إذا أعدنا النظر فقد لا تكون صائبة ودقيقة بشكل كامل.
من الأفكار المتداولة حالياً أن العالم سيكون أكثر انعزالاً، ولن يعود إلى سابق عهده بسبب الخوف وإغلاق الحدود. ولكن هذه الأزمة الحالية كشفت أن العالم بأمسِّ الحاجة إلى أن يكون متكاتفاً، وهذا ما يحدث حالياً. العالم يبدو مترابطاً في مواجهة فيروس «كورونا» أكثر من أي وقت مضى. قمة العشرين الأخيرة في الرياض دلَّلت على قوة الاتحاد الدولي للتغلب على الأزمات الخطيرة. المنظمات الدولية، مثل منظمة الصحة العالمية، هي من تحظى بالثقة الكاملة، والأبصار شاخصة على مؤتمراتها اليومية بحثاً عن الخلاص.
الأزمة عالمية، ومن غير المتوقع أن يتفكك العالم إلى قرى معزولة؛ لكن الحكمة المستخلصة جلية. لا أحد بمقدوره أن يقف وحيداً أمام هذه الجائحة التي قد تتكرر مستقبلاً.
هناك من يقول إن النظام الدولي سينهار بعد هذه الأزمة، ويذكرنا بما حدث في مراحل الكساد في ثلاثينات القرن الماضي، من تحول شكل العالم ودخول الولايات المتحدة بقيادة الرئيس روزفلت، المسرح الدولي. يتوقعون -مع «كورونا»- أن محور القوة سيتجه إلى الشرق الآسيوي. من المستبعد لسببين؛ الأول: أن القوى العظمى تضررت (الصين وأميركا) من الوباء. أي أنهم لن ينجحوا في تسويق أنفسهم كمنتصرين في المعركة. السبب الآخر هو أن النظام الدولي الحالي لم يتشكل بفعل الأوبئة والأمراض، ولكن بسبب تحولات في القوة العسكرية؛ حيث انهارت ألمانيا وصعدت الولايات المتحدة وفرضت رؤيتها الليبرالية على العالم.
«كورونا» لن يغير في طبيعة النظام العالمي الحالي، سيبقى ليبرالياً منفتحاً متصلاً لوقت طويل، إلى حين صعود قوى أخرى تهدمه. للجراثيم والفيروسات قوى غير مرئية، ولكن ليس من بينها تشكيل صورة العالم الجديد.
الشكوك حول قوة الحضارة الغربية بعد فيروس «كورونا» مبالغ فيها. إن النبرة الصاعدة المترافقة مع صور الجثث في ثلاجات الفواكه والمصفحات العسكرية، عن انهيارها وعودتها للقرون الوسطى، مجرد رغبات ونبوءات تعبر عن مخزونات من الماضي. قوة العلم والمعرفة التي تشكلت هناك خلال قرون قادرة على التغلب على هذه الأزمة الصعبة.
التطلعات والآمال الحالية للبحث عن لقاح لهذا المرض موجهة على المختبرات في الولايات المتحدة وألمانيا وبريطانيا. هذه القوى تعيش تجربة قاسية، ولكنها بلا شك ستخرج منها قوية.
البشرية تعرضت لرضة نفسية بسبب محاصرتها من قبل فيروس مجهري. لم يتوقع الناس أنهم سيموتون من الأوبئة كما مات أسلافهم قبل أكثر من 100 عام. اعتقدوا أنهم تجاوزوا هذه المرحلة، ولكن مع هذا ثقتهم بالعلم كوسيلة للخلاص تصاعدت. إنهم يبحثون عن وصفات الأطباء وتوجيهات العلماء، وليس المخادعين والمشعوذين. بعد الخروج من أزمة «كورونا» ستزيد بشكل مؤكد الثقة بالعقلية العلمية، وستضعف التصورات القديمة السحرية للمعرفة.
هل تعود الحياة إلى طبيعتها في اليوم التالي بعد هزيمة فيروس «كورونا»؟ بعيداً عن السيناريوهات المتشائمة، فإن التاريخ يعلمنا أن البشرية مرَّت بحروب عالمية وأوبئة قاتلة وأزمات مالية خانقة، وخرجت منها منتصرة، وعادت إلى طبيعتها الأصلية، متفائلة ولديها ذاكرة قصيرة ورغبة قوية في الحياة، والسعي خلف سعادتها ونجاحها الشخصي.
- المدير العام لقناتي «العربية» و«الحدث»
7:44 دقيقه
TT
اليوم التالي بعد الخلاص من فيروس «كورونا»
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة