جميل مطر
كاتب ومفكر مصري مهتم بقضايا الإصلاح والتحول الديمقراطي.
TT

ترمب ورهان على الفيروس

أتابع الرئيس الأميركي منذ كان رئيساً لإحدى أهم شركات المقاولات ومهيمناً على حيوات ومستقبل عشرات، وربما مئات أو ألوف النساء والرجال الطامحين إلى التعرف على شخص يساعدهم على ولوج عوالم الفن والإعلام. هو نفسه تلقى دروساً في التمثيل وأدّاه فعلاً على شاشة تلفزيون الواقع. انتوى أن يكون رئيساً للبلاد.
تعمقت النية عندما لاحظ كما لاحظنا أن أميركا تنحدر. ظهر انحدارها صريحاً في آسيا خاصة ثم في أوروبا والشرق الأوسط. انتبه إلى تهديد أشد. رأى الرأسمالية كما رأيناها وإنْ من بُعد أحياناً وبفجاجة معظم الوقت. رآها ورأيناها تعاني من عنف وقسوة ما أصابها.
رأى ونرى ما أصاب الغرب كله منذ أواخر سنوات العولمة. كانت العولمة سبباً في معظم الحالات والتحليلات ولكن كانت هناك أسباب أخرى.
كانت هناك مثلاً صحوات في مواقع وثقافات خارج الغرب. بدأت بهمسة هنا وهمسة في موقع آخر ثم صارت أفعالاً وكلمات صارخة كادت مجتمعة تقول للغرب كفى، تستصرخه بعد همس طويل، أن يتنحى أو على الأقل يتخلى عن بعض مواقع صدارته في النظام الدولي. أن ينسحب قليلاً، وبالتأكيد ليس كثيراً، من أدوار في الثقافة والسياسة والاقتصاد والقانون احتكر القيام بها وترويجها. واقع الأمر أو خلاصته في كلمات قليلة هو أن الغرب استفاق فجأة من غيبوبة العولمة ليجد نفسه أمام يقظة قوية وكاسحة في مواقع أخرى من العالم. لم يصدق ما رآه فراح يتخبط وارتبكت دول كبيرة في تصرفات عديدة وخطيرة مثل شن حربين في أفغانستان والعراق وحروب أخرى صغيرة وعديدة في الشرق الأوسط.
أظن ولا أبالغ في القول إن معظم ما وقع من الغرب، أقصد من أميركا وأوروبا الغربية وروسيا، خلال الأعوام الثلاثين الماضية، لا يخرج كثيراً وبعيداً عن كونه رد فعل متعالٍ، أو عنصري، إن شاء البعض، من جانب الشرائح الحاكمة في طبقة سياسية في غرب متفاجئ بصعود آسيا، والصين بخاصة.
فاجأت الصين المجتمعات السياسية في دول الغرب ولكنها فاجأت بشكل خاص الدولة العميقة في الولايات المتحدة. ساهمت هذه الدولة العميقة مساهمة فعالة في هذا الصعود المتسارع وما كان يمكن أن تحقق الصين ما حققته من دون شراكة مع الولايات المتحدة خلال مرحلة العولمة، ومع ذلك كانت الجهة الأميركية، وبشكل خاص المؤسسة العسكرية والأمنية، الأشد غضباً مما آلت إليه مكانة الصين في آسيا والمجتمع الدولي على حساب مكانة أميركا.
جاء دونالد ترمب إلى البيت الأبيض محمولاً على أربع فرص مذهّبة، على الأقل. أولى الفرص اقتصاد أميركي في شكله الخارجي وبعيداً عن التفاصيل اقتصاد مرتاح. بمعنى آخر كانت القوى الاقتصادية والاجتماعية المالية الأصل والنفوذ لا تزال محتفظة بقدرتها على التأثير في توجهات المجتمع.
هذا بينما كانت القوى المعترضة قليلاً أو كثيراً كظاهرة الشباب والقوى الجديدة الصاعدة لتوّها، كلها أضعف تأثيراً بحكم دخولها المتأخر الساحة السياسية مقارنةً بالهيمنة المتصاعدة والكاسحة أحياناً لقوى جديدة، وعلى رأسها، الشركات المنتجة لابتكارات التكنولوجيا الرقمية.
الفرص الثانية نجدها في التفاصيل التي أغفلناها عن عمد في الفرصة الأولى وبالتحديد في فئة ليست كبيرة العدد ولكن مناسبة لظروف استثنائية عالمية بعامة وأميركية بالخصوص. لا يمكن لنا أو لغيرنا تجاهل حقيقة أن التطور الاقتصادي في ظروف ما بعد نهاية العولمة تطلب الاستغناء عن خدمات عمالة في قطاع مناجم الفحم كما في بعض قطاعات صناعة الصلب. تصادف في أميركا أن العمال المشتغلين في هذين القطاعين كانوا من البيض ويسكنون مناطق قريبة إلى قلب أميركا الأسطوري. لم يشأ ترمب أن تفوته هذه الفرصة فاشتغل على تضخيمها إلى أبعد جداً مما تحتمل.
الفرصة الثالثة أن الحزب الديمقراطي كان على وشك أن يخطئ، وأخطأ بالفعل، فقام بترشيح هيلاري كلينتون. رشّح امرأة لخلافة رجل أسود في انتخابات لاختيار رئيس جمهورية في دولة تغلي، بفعل العولمة، في قضايا الأقليات. كان الخطأ هدية السماء، كما كان يقول المتدينون الإنجيليون في حملة الترشح.
وبالفعل لعب عليه ببراعة وحقد رائعين السيد ترمب على امتداد المرحلة الانتخابية وما زال حتى يومنا هذا يلجأ لمزيجه المفضل والفعال، أوباما الأسود وهيلاري المرأة، كلما شعر بانحدار شعبيته في جموع قطاع معين من الناخبين الأميركيين. وهو قطاع لا شك في مدى اتساعه ونفوذه.
الفرصة الرابعة توفرت هي الأخرى بتأثير من عولمة فعلت ما فعلت وبدأت تتراجع بسرعة. كان الرئيس فلاديمير بوتين قد أنهى للتوّ مرحلة مهمة من مراحل إعادة ترتيب البيت الداخلي وانتقل لإعادة ترتيب مصالح روسيا الخارجية وفي صدارتها العملاق الأميركي، الطرف اللدود عداءً وصداقةً.
هو الطرف المقبول نسبياً أكثر من غيره لدى الدولة العميقة في روسيا، وهي الدولة التي نشأ فيها بوتين ولا يعرف غيرها حاضنة له ومدعاة لفخره واعتزازه، هي التي تستحق أن تعاد لها مكانتها داخل روسيا قبل أو مع استعادة مكانة روسيا في الخارج. أزعم أن هناك بين روسيا البوتينية من ناحية ومن ناحية أخرى أميركا في سنوات الإعداد لانتخابات رئاسية تنهي عهد الديمقراطيين في الحكم، ما يستحق الإخفاء والتعتيم عليه.
كادت تفاصيله تنكشف أمام كونغرس يحاكم الرئيس ترمب وينوي عزله. ولكن ما أذيع من أسرار خلال المحاكمة كافٍ لمن كان في موقعنا بعيداً عن سلطة الحكم والعدالة أن يخرج مقتنعاً بأن روسيا ربما اكتشفت عشية الحملة الانتخابية أن لها مصلحة في المساهمة في توصيل المرشح ترمب الذي فضّلته لأسباب لم تنكشف لنا بعد إلى المقر المبتغى، إلى المكتب البيضاوي في البيت الأبيض.
هي أسباب أو افتراضات سوف نظل نلاحقها لنثبتها حقائق واقعة أو نرفضها كاجتهادات غير موفقة. يُحتمل جداً أن يكون الطرف الروسي تنبأ بعلاقة أميركية صينية نهايتها صراع دموي وبالتالي قد يتعين من الآن على القيادة الروسية أن تكون في المكان المناسب في الوقت المناسب وبالوعي المناسب، وهو ما يفسر بشكل ما الدعم البوتيني للرئيس ترمب وتعميق روسيا لأسباب الخلافات الأميركية الصينية. يُحتمل أيضاً أنه قرأ في أحاديث مع ترمب أو عائلته أو مبعوثيه في موسكو حقداً ترمبياً عميقاً للاتحاد الأوروبي وبعض شركاء أميركا في الحلف الأطلسي، راح تحالف مع ترمب، وليس مع دولة أميركا العميقة، لإثارة القوى السياسية المتطرفة في الدول الأوروبية ضد حكامها.
يُحتمل ثالثاً أن يكون قد توصل من خلال دراسته للتقارير عن شخصية ترمب أنه الرجل المناسب لزرع الانقسام داخل أي كيان يديره أو يسيطر عليه. ولا شك أن زرع انقسام في المجتمع الأميركي أو تعميق انقسامات فيه كان وسيظل هدفاً ثابتاً للدولة الروسية.
أليست هذه الافتراضات، جميعها أو أكثرها، جزءاً من نقاشات حيوية جارية حالياً في معظم غرف البحث والدراسات واتخاذ القرار في كثير من دول العالم المهتمة بمصيرها؟ لست من أنصار هذا الرجل ولن أكون. ترمب يجسد في شخصه وشخصيته كل ما لا أحب. يكذب كثيراً ويكره ويشمت. تابعت من قرب ما يفعل منذ بدء أزمته مع الفيروس.
انتابتني لفحة من الظن أن ترمب يستطيع بكل بساطة أن يكرر تجربة بيبي نتنياهو؛ أن يصعّد أزمة فيروس «كورونا» في لحظة حاسمة ليفرض حال طوارئ يتعذر معها إجراء انتخابات هذا العام والعام الذي يليه.
إلى هذا الحد تدنت ثقتي بالرئيس ترمب، وبخاصة بعد أن رأيته ينكر لأسابيع متصلة حقيقة أن الفيروس منتشر ومستمر ينهش صدور آلاف الأميركيين. ثم استمر إلى يوم كتابة هذه السطور يناور ويراوغ، قضيته الأساسية أن البلاد في عام انتخابات ولا يجوز أن تنشغل بغيرها أو بغيره.