علي العميم
صحافي ومثقف سعودي بدأ عمله الصحافي في مجلة «اليمامة» السعودية، كتب في جريدة «الرياض» وكتب في جريدة «عكاظ» السعوديتين، ثم عمل محرراً ثقافياً في جريدة «الشرق الأوسط»، ومحرراً صحافياً في مجلة «المجلة» وكتب زاوية أسبوعية فيها. له عدة مؤلفات منها «العلمانية والممانعة الاسلامية: محاورات في النهضة والحداثة»، و«شيء من النقد، شيء من التاريخ: آراء في الحداثة والصحوة في الليبرالية واليسار»، و«عبد الله النفيسي: الرجل، الفكرة التقلبات: سيرة غير تبجيلية». له دراسة عنوانها «المستشرق ورجل المخابرات البريطاني ج. هيوارث – دن: صلة مريبة بالإخوان المسلمين وحسن البنا وسيد قطب»، نشرها مقدمة لترجمة كتاب «الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة» لجيميس هيوارث – دن مع التعليق عليه.
TT

عواد وقصته المهلهلة

ينقل محمد حسن عواد فقرات مما قالته مي زيادة في كتابها «بين الجزر والمد: صفحات في اللغة والآداب والفن والحضارة» عن العرب ولغتهم وحضارتهم، وعن النبي محمد، وعن القرآن ودوره في نشأة العلوم عند العرب والمسلمين، ثم يخلص إلى القول بأن «هذا ما تقوله كاتبة مسيحية لا تزال في سن الشباب بعد، عن العرب وحضاراتهم، وعن الإسلام والقرآن وما قدمه إلى العالم من المدنيات الحية، وهي بهذا تزف إلينا أمجاد العرب وأمجاد الإسلام كأول دين أسس في العالم حضارة أممية، شمخت بها أنوف كثيرين من غير أبناء الإسلام، تزف إلينا ذلك قبل أن يزفه أولئك الأشياخ ممن تصدوا لبيان مواهب الإسلام ومدنياته من هؤلاء الموجودين في عصرنا، المنبثين في الأصقاع الإسلامية بصفتهم اختصاصيين في معرفة الدين».
وقبل أن ينقل فقرتين من مقالين من مقالات كتابها، عن مقترحها في تقسيم موضوعات الشعر العربي، وعن صعود الحضارة وهبوطها ثم انتقالها إلى شعب آخر، وعن سبات المشرق العربي لقرون ثلاثة وبوادر نهضته مجدداً، روى هذه القصة:
«صادف قبل أسبوعين أن اجتمعت في منزل صاحب السعادة السيد محمد نصيف، بشيخ من شيوخ الدين يدَّعي أنه من أحرار الأفكار أيضاً، فجاذبته الحديث ووجهت له السؤالات الآتية:
كيف تقنع الخصم بدليل عقلي محسوس يثبت صحة الدين الإسلامي؟ هل أضاف الإسلام إلى العالم أفكاراً جديدة؟ وإذا كان فما هي تلك الأفكار؟ لماذا لم يكاتب النبي -صلى الله عليه وسلم- بالدعوة ملك الصين، وخاقان الترك، وإمبراطورية روما الغربية الموجودين في عصره، كما كاتب الحبشة، والفرس، والقبط، والروم الشرقيين؟ لماذا كان الأنبياء آسيويين ولم يروِ لنا التاريخ ظهور أنبياء في أوروبا؟ أما أميركا وجزائر المحيط فلم تعمَّر إلا حديثاً، وفي أفريقيا أرسل بعض الأنبياء كموسى وهارون ويوسف... إلخ.
وبعد تلكؤ وتسكع طويلين من حضرة الشيخ، أفاض فيهما عن مكنونات ضميره الحر! أجاب عن السؤال الأول بجواب مجمل، وقد يكون فيه بعض (الاقتناع)، وأجاب عن السؤال الثاني بجواب لا يرضاه الفكر الحر! وأجاب عن السؤال الثالث بجواب بعيد عن منطق التاريخ، وعن السؤال الرابع بجواب ليس بمفهوم، وبالإجمال كانت إفادة الأستاذ تهويشاً وتخبيطاً. وبعد أن انتهى قلت له:
إن هذه الأجوبة لا تقنع يا مولاي!
فأجاب: أنت حر!
وكذلك كان. فكنت حراً. ثم قدمت الأسئلة إلى عالم آخر وصل جدة بعد الحادثة بأيام، وحين استفسرت من هذا عن معنوية ذاك. أجاب: أنه يبالغ في حرية الفكر، ولكن مع قلة الاطلاع».
هذه القصة التي رواها محمد حسن عواد أراد بها أن يقلِّد فيها ولي الدين يكن، في قصصه مع علماء الدين ورجاله ومع المتدينين. وأراد بها تحديداً تعزيز رأيه الذي قاله قبل أن يرويها، مثلما كان يفعل ولي الدين يكن. يقول رئيف خوري عنه: «من الخصائص المميزة لأسلوب ولي الدين أن يؤيد رأيه بذكر حادثة وقعت له. فهو أبداً يستمد من سيرة حياته وتجاربه الشخصية».
وقبل أن أناقش قصته هذه للتدليل على أنها قصة باهتة، أشير إلى أن شيخ الدين الذي اجتمع به صدفة في بيت الشيخ محمد نصيف ليس من الحجاز، وإنما هو من الذين قال عنهم: «... المنبثين في الأصقاع الإسلامية بصفتهم اختصاصيين في معرفة الدين»، الذين رأى أن مي زيادة قد سبقتهم إلى الحديث عن أمجاد العرب وأمجاد الإسلام... وفي التصدي لبيان مواهب الإسلام ومدنياته.
محمد حسن عواد في قصته هذه لم يشرك قارئ كتابه «خواطر مصرّحة» معه، فيورد له إجابات شيخ الدين التي أتى بها «بعد تلكؤ وتسكع طويلين» وهي: الإجابة المجملة، والإجابة التي لا يرضاها الفكر الحر، والإجابة البعيدة عن منطق التاريخ، والإجابة غير المفهومة، لكي يقرّه على أحكامه هذه، ويقرّه على حكمه عليها، بأنها –بالإجمال– كانت تهويشاً وتخبيطاً. فالقصة –بالتالي– قصة ناقصة. وفي قصص ولي الدين يكن لا نجد مثل هذا العيب.
شيخ الدين في هذه القصة قَبِل أن يوجه محمد حسن عواد إليه الأسئلة السالفة، وأجاب عنها. وأسئلته السالفة هي عند شيوخ الدين المتزمتين الذين ينكرون حرية الفكر، تحمل في ظاهرها تشكيكاً في الدين وفي الإسلام، مما يدفعهم إلى توبيخ من يوجهها لهم وزجره وتعنيفه، هذا إن لم يرموه بالفسق والفجور والضلالة والكفر. الشيخ لم يفعل شيئاً من هذا. وهذا يعني أنه ممن يدخلون المنطق في الأمور الدينية، ولا يرى بأساً في طرح أي سؤال مهما كان دقيقاً وحساساً وحراً حولها. وعليه فهذا الشيخ على هذا المستوى متحرر في فكره؛ بل هو متحرر فيه جداً على هذا المستوى؛ لأنه لما جابهه بأن إجاباته غير مقنعة لم يضق به، وقال له: أنت حر فيما تراه فيها.
إن هذا الشيخ من طراز ممتاز في الأريحية في المناقشة؛ لأنه من الصنف الذي لا يلزمك بالأخذ بإجاباته حينما تسأله أسئلة جدالية.
وفي هذه القصة التي حصلت لمحمد حسن عواد معه، لم يتضح لي ما المأخذ عليه في إجاباته، ولا أين الإثم فيها؛ بل أرى أن راوي القصة قد ظلمه فيها.
أخبرنا محمد حسن عواد في خاتمة قصته، أنه قدم أسئلته السالفة إلى «عالم آخر». واسم «آخر» في اللغة العربية هو أحد شيئين يكونان من جنس واحد. والأول في القصة كان «شيخاً» ولقد سماه «أستاذاً» لما أعطى حكماً إجمالياً على إجاباته، تهكماً به! والثاني فيها كان «عالماً». فما مسوغ استخدامه لكلمة «آخر» مع الثاني رغم أنه سماه «عالماً» ولم يسمِّه «شيخاً»، كما الأول؟!
فهل المسوغ عنده، وإن لا شعورياً، أن الأول والثاني كلاهما شيخ من شيوخ الدين؛ لكن لأنه مقتنع بثقافة الثاني ومعجب برأيه في الأول منحه وصف «عالم»؟!
قد يكون الأمر بخلاف ذلك، وهو أن الثاني من غير المنتمين إلى السلك الديني، فقد يكون أديباً أو دارساً لعلم من العلوم الحديثة، وقارئاً في الأديان وفي الفلسفة، وأن استخدامه لكلمة «آخر» كان مجرد خطأ في التعبير.
إذا كان الأمر كذلك، فالمستفاد من قصته، أن مشايخ الدين يستحيل عليهم أن يكونوا من أحرار الفكر، أو بلغة عصر النهضة العربي: «حُرِّيين» أو«تحرريين». وهما ترجمتان من اللغة الفرنسية ومن اللغة الإنجليزية لاصطلاح «الليبراليين» الذي استقر الأمر بعد ذلك على تعريبه، وتعريب اصطلاح «الليبرالية» الذي ترجم في ذلك العصر إلى العربية بعبارة «الفكر الحر»، وبعبارة «الفكر المتحرر».
إذا صح هذا الاستنتاج، فإن محمد حسن عواد يقلد ولي الدين يكن في اعتقاد، يتلاءم مع مذهبية الأخير اللّائكية، ومع تجربته الشخصية التي أملاها عليه واقع ديني وسياسي عثماني؛ لكنه لا يتلاءم مع إطاره الفكري والوجداني. فهو متيم بالإمام محمد عبده ومدرسته الإسلامية الإصلاحية. والإمام محمد عبده عالم دين ورجل دين. ويرى اقتداء به أن الإصلاح الديني هو السبيل الأمثل للإصلاح الدنيوي. كما أنه مفعم بروح دينية وبحماس ثقافي إسلامي.
ولأن محمد حسن عواد في ذلك الاعتقاد كان اتباعياً ومقلداً لولي الدين يكن، فإنه لم يتأمل فيه ويفحص صحته على ضوء تجربة محمد عبده وتجربة المدرسة الإسلامية الإصلاحية. فمحمد عبده مع أنه عالم دين ورجل دين فإنه كان ذا نزعة ليبرالية. وكان كذلك أتباع مدرسته من رجال الدين. ومحمد فريد وجدي الذي هو من أتباع محمد عبده، والذي اقترح على علماء الحجاز دراسة كتاب من كتبه لا يختلف عن هؤلاء إلا من حيث الشكل والهيئة، فهو رجل مدني وهم رجال دين. ويختلف مع آخرين من المتأثرين بمحمد عبده من العلمانيين في المضمون. رغم أنهم مثله رجال مدنيون، فهو يختلف عنهم بأن أطروحته هي أطروحة دينية إسلامية، مثله في هذا مثل ذوي الشكل والهيئة الدينية من أتباع مدرسة محمد عبده. وهذه الأطروحة لم تمنعه ولم تمنعهم من أن يكونوا ذوي نزعة ليبرالية.
وغير صحيح أن مي زيادة سبقت الأشياخ في الحديث عن أمجاد العرب وأمجاد المسلمين... وفي التصدي لبيان مواهب الإسلام ومدنياته. فهذا المنحى كان موجوداً عند بعضهم قبل أن تؤلف كتابها، وكان موجوداً في أثناء إخراجها لهذا الكتاب في شهر يونيو (حزيران) عام 1924. ولو افترضنا جدلاً أنها سبقتهم في هذا المنحى، فهذا لا يجعلهم -حسب منطقه العجيب- أدعياء فيه.
كذلك، فإن المستفاد من قصته هو أنه لكي تكون ليبرالياً فلا بد من أن تكون واسع الاطلاع، وأن يقتنع سائلك بإجاباتك. فإذا لم يتحقق فيك هذا الشرط المتعنت، فأنت إذن مُدَّعٍ لليبرالية ومبالغ فيها!
أخلص من نقاش قصة محمد حسن عواد مع شيخ الدين، إلى أنها قصة طعام خالٍ من الملح، لا مذاق فيها.
القصة عند ولي الدين يكن التي يرويها في ثنايا مقالاته، متماسكة وليست مهلهلة كقصة محمد حسن عواد هذه التي عرضناها ثم ناقشناها في هذا المقال، ولا كقصته تلك التي تطرقنا لها في مقال «إيمان مشوب بقلق وشك»، وتخدم الرأي الذي يذهب إليه والفكرة التي يدعو إليها. وللحديث بقية.