حسام عيتاني
كاتب وصحافي لبناني لديه عدد من المؤلفات؛ منها: «الفتوحات العربية في روايات المغلوبين»، إضافة إلى ترجمات ومساهمات في دوريات عربية مختلفة. انضم إلى كتّاب «الشرق الأوسط» في عام 2018.
TT

لبنان: الوباء في خندق النظام ضد الانتفاضة

ضاعف وباء «كورونا» معاناة اللبنانيين التي كانت قد بلغت مستويات مأساوية قبل تفشي المرض. أوقف الخوفُ من انتشار العدوى أعمالَ المؤسسات الخاصة والإدارات العامة وعطّل سير العام الدراسي وعمّق أزمة الاقتصاد التي تنعكس عسراً قاسياً في تدبر الحياة اليومية لملايين المواطنين واللاجئين في لبنان. لكنْ للمرض وجه ومعنى سياسيان، إذ يسهّلان إعادة إمساك النظام المتهالك بعنان المجال العام الذي بات محظوراً على أكثرية اللبنانيين ويزيد من صعوبة المطالبة بالإصلاح.
أُضيفَ الشلل الاقتصادي والسياسي الذي تعاني البلاد منه منذ شهور عديدة إلى الرعب الذي خلّفه انعدام الثقة بقدرة دولة فاشلة وعلى شفير الإفلاس التام، على إدارة أزمتين متداخلتين وخطيرتين في آن، مثل الكارثة الاقتصادية – الاجتماعية التي نزلت باللبنانيين ومرض «كورونا». والحال أن كل واحدة من هاتين المصيبتين تغذّي الأخرى وتمدها بأسباب الاستمرار والانتشار.
حتى الآن لم يقع انفجار تضخمي في أعداد المرضى وما زالت الهيئات الطبية، وفي مقدمتها مؤسسات القطاع العام (التي شكَّلت، إلى جانب الجامعة والمدرسة الرسميتين أهدافاً مفضلة لسياسات التقشف والاقتطاع والإجحاف التي تتبعها الحكومات المتعاقبة وهذه من المهازل - المآسي التي يعيشها اللبنانيون منذ عقود) ما زالت قادرة على إجراء الفحوصات الضرورية واستيعاب المصابين وتقديم خدمة طبية معقولة لهم، فيما تقف المستشفيات الخاصة في الصفوف الخلفية طامعة في تحقيق المزيد من الأرباح من آلام الناشس ومعاناتهم. لكن هذا حديث آخر.
السيطرة النسبية على المرض في لبنان وانتقال قسم وازن من الشركات والمدارس والجامعات إلى أسلوب «العمل عن بعد» أعطى السلطة السياسية فرصة لالتقاط الأنفاس واستئناف الاهتمام بالقضايا التي أدت إلى اندلاع انتفاضة السابع عشر من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. إذ يبدو أن الحكومة الحالية تعمل بوتيرة سريعة لإقرار جملة من القوانين واتخاذ إجراءات ذات أثر اقتصادي وسياسي بعيد المدى على غرار إعادة هيكلة القطاع المصرفي وتشريع «التحكم برأس المال» وفرض قيود على التعامل بالعملات الأجنبية، ما قد يغيّر كامل طبيعة النظام الاقتصادي اللبناني، وصولاً إلى إمكان إخراجه من النظام المصرفي العالمي (أو الغربي، كما يحبذ البعض وصفه)، وإنشاء نظام بديل يعتمد على التعامل النقدي اقتداءً بأمثلة تسود في إيران وسوريا وفنزويلا، على سبيل المثال. لا يخفى أن تغييراً من هذا النوع، وبغضّ النظر عن حساب أبعاده الاجتماعية في بلد يرتبط عضوياً بدورة الاقتصاد العالمي، فإن توجهاً كهذا سيطرح أسئلة عن الوظيفة الكلية للاقتصاد والكيفية التي سيوفر فيها اللبنانيون مداخيلهم وعن الأسواق التي ستستقبل منتجاتهم، وسوى ذلك الكثير من المتاهات التي سيدخل لبنان فيها وهو في أسوأ حال لناحية القدرة على صوغ السياسات الضرورية لتبدلات كبرى في دوره الإقليمي.
ولا مفر من القول إن الوباء قد أوقف نهائياً كل النشاطات التي كان المنتفضون يقْدمون عليها للتعبير عن رفضهم للنهج الأرعن الذي أوصل البلاد إلى هذا القعر والدمار.
جليٌّ أن الوباء يقف في خندق الحكم بمنعه المتظاهرين من النزول إلى الشوارع أو القيام بأي نشاط. في المقابل، تساعد الطبيعة البيروقراطية للنظام على متابعته عمله من دون عوائق يعجز عن تجاوزها. فالاعتماد على الأوامر الهاتفية والتسيير عن بُعد باستخدام شبكات الاتصالات الهاتفية والإنترنت يسمح للسلطة بالحفاظ على بعض الفاعلية من دون أن يُعرّض السياسيون والمسؤولون الرسميون أنفسهم لخطر العدوى. وهذا على نقيض نشاطات الانتفاضة التي تشكّل المظاهرات والتجمعات الحاشدة – وهذه باتت ممنوعة بقرار من مجلس الوزراء - عمودها الفقري، ما يطلق يد السلطة ويجعلها العليا.
الميزة هذه التي يبدو أن السلطة تستغلّها لتكريس أمر واقع قوامه إجراءات وقوانين ما كانت لتمر لو كان المجال العام مفتوحاً على نحو ما ساد بين أكتوبر ويناير (كانون الثاني) الماضيين، ستسهم في رسم حقائق جديدة سيكون تغييرها غاية في الصعوبة، خصوصاً أن الوقائع المقبلة ستُعزَّز بالنصوص القانونية وبالاختلال الكبير في موازين القوى لمصلحة الأحزاب والتيارات التقليدية سواء المشاركة في الحكومة الحالية أو الطامحة إلى عودةٍ ظافرةٍ إلى مقاعد القيادة.
سدد وباء «كورونا» لكمة قاسية إضافية إلى محاولات التغيير السياسي والاقتصادي في لبنان ووضع المواطنين أمام خيارات شديدة القسوة من مثل الاستمرار في الاحتجاج والإصابة بالفيروس القاتل أو التنحي جانباً ومراقبة ما ستؤول إليه الأمور في ظل إدارة مرتبكة تستند إلى غياب البدائل وإلى الفراغ كعنصرين أساسيين في تجاوز أزمة النظام التي اعتقد كثر من اللبنانيين أنه بات قوسين أو أدنى من السقوط.