صلاح دياب
- كاتب مصري
TT

وهم... خيال وغريزة

الوهم والخيال، كما الغريزة، جميعها تحرك أحاسيس غير ملموسة، بتأثير جبار على حياة المخلوقات. بنى الفيلسوف الإنجليزي فرانسيس بيكون (1561 - 1626) فلسفته على الملاحظة والتجريب، من خلال رصد مجموعة من الأوهام التي يجب أن ينتبه إليها البشر ويتخلصون منها، ليكون ذلك بداية التفكير العلمي الصحيح. وحدد بيكون تلك الأوهام في أربعة، باتت تعرف لاحقاً في تاريخ العلم باسم «أوهام بيكون الأربعة»؛ التي يمكن تفصيلها في أوهام القبيلة، وأوهام الكهف، وأوهام السوق، وأوهام المسرح.
من جانبي، أرى أن المجموعة المكونة لعنوان هذا المقال هي منح من الله، فالوهم هو ما يقع في الذهن من الخاطر، وحين يصير هذا تصوراً كاملاً متوهماً، يأتي الخيال، وفي الخيال يمكن أن تظهر المخترعات العظيمة والابتكارات المدهشة، وعندما ينتظم الوهم المتخيل ضمن سياق تلبية حاجة محددة أو بلوغ غاية تم تشخيصها سلفاً، سيظهر الابتكار، وعبر سلسلة من التجريب وتصويب الأخطاء والتجويد، سيظهر الاكتشاف، في مسيرة عرفها العالم في معظم ما تم اجتراحه من مخترعات ساهمت في تطوير مسيرة البشرية ومعالجة التحديات التي تواجهها.
من خلال الخيال، ابتُدعت الفنون بأنواعها... الشعر والموسيقى والرسم والنحت والرواية، بل والكتابة نفسها، كل هذه الفنون تعكس انطباعات ذهنية، بأفكار يختص بها شخص عن الآخر.
من خلال هذه الأحاسيس المترتبة على كل هذا، مارسنا أرقى المشاعر. الأمومة والأبوة. البنوة والإخاء. العاطفة بأنواعها.
لو تمعنا في الأمر أكثر، سنجد أن هذا هو أحد أسرار بقاء النوع، ربما لكثير من أنواع المخلوقات.
فالإنسان قد يتوهم أنه يمتلك أشياء كثيرة، وفي حقيقة الأمر هو لا يمتلك شيئاً. يتوهم أنه يمتلك المال، لكنه في النهاية ليس سوى مدبر ومدير لهذا المال، حتى يتراكم، يتزايد أو يتناقص، ليتركه خلفه حين يأتي أجله. يعتقد أن أبناءه ملكه، مع ذلك في وقت ما سيتركهم. ينظر إلى أبيه وأمه باعتبارهما ملكاً له، مع ذلك يتفاجأ حين يتركانه ويرحلان. أليست هذه سنّة الحياة؟
لكن تلك التصورات الخيالية، التي تتضافر لتخلق أوهاماً في بعض الأحيان، هي التي تجعل الإنسان يسعى ويستثمر ويتوسع ويدخر، وتجعله يحب ويكره ويتعاطف ويتكاثر.
يظهر الخيال في شكل دوافع غريزية، تأخذنا بقوة إلى الارتباط بالجنس الذي ننتمي إليه (القبيلة كما قال بيكون)، تزيد التصاقنا بالعائلة التي نتصور أحياناً أننا نملكها ونتحكم في مصيرها، فتحنو الأم على وليدها وتمنحه غذاءه من جسدها وروحها، ويمنح الأب أبناءه الرعاية ويورثهم أفضل ما استطاع جمعه وادخاره، ويرجو لهم المزيد، وكأنهم قطعة من وجوده.
فهذا الوهم هو في الحقيقة نعمة... أن تعيش هذه الأحاسيس فهذا جزء من رحمة الله على عباده.
الوهم لو ترجمته الغريزة لا يتوقف سره عند الإنسان، بل ينطبق على كل المخلوقات؛ فينسحب على الحشرات والطيور والحيوانات بأنواعها. بفضل هذا الوهم خُلقت الدوافع، وولد لدى المخلوقات جميعاً حب البقاء.
عندما حاول بعض المفكرين تجاهل هذه الغريزة الأساسية، وسعوا إلى الاعتماد على الجانب المادي فقط لتفسير حركة الإنسان عبر التاريخ، وراحوا يبنون أهراماً متخيلة لتفسير السلوك الإنساني، واضعين الحاجات المادية الملموسة في قاع تلك الأهرام، والقيم وتصورات المكانة وتقدير الذات في أعلاها، أغفلوا أهم عنصر في الحياة، وهو تلك المشاعر والأحاسيس، التي أتت من تصورات وأوهام وتخيلات، وتحولت إلى دوافع، قادت البشر، في ذروتها، أحياناً، إلى اجتراح المعجزات وإلى تحدي الموت وإلى صنع الحضارة وإدامتها.
ليس هذا نقداً للماركسية، أو تفنيداً لظهيرها الفكري المتمثل في المادية الجدلية، بقدر ما هو محاولة لإعادة الاعتبار لدور الوهم والخيال، باعتبارهما في امتزاجهما مع الدوافع الغريزية محركاً أساسياً للإنسانية وصانعاً رئيساً للتاريخ.
الماركسية تخاطب الجزء المادي في الإنسان، انطلاقاً من تشخيص احتياجاته، واعتماداً على حسبة بسيطة، تفيد بأن كل إنسان يستهلك الكمية نفسها من الأكسجين، بصرف النظر عن موقعه الاجتماعي، وأن لكل إنسان حاجات غذائية محددة، وقدرة على استيعاب الغذاء محددة، وحداً أقصى لما يستطيع أن يرتديه من ملابس في وقت واحد.
وتأسيساً على هذا التحديد المبسط، فالعدل يقضي بتوزيع الموارد على الجميع بقدر الحاجة والمتطلبات، وليس بقدر الطاقة وقدرة الفعل والإنجاز.
إن ذلك جهد علمي وإنساني مثير للاهتمام والإعجاب، فالنظرية في الحقيقة تكاد تتجاوز بعض الأديان في مثاليتها وحسها الإنساني، لكنها في طريقها لإدراك العدل المبتغى، تجاهلت نعمة كبرى ومحفزاً جوهرياً، يتعلق برغبة الإنسان في الامتلاك، التي هي ترجمة لأوهامه عن التملك، وتأصيلاً لدوافعه في السعي والمنافسة والإنجاز.
يصعب تجاهل تأثير هذا الوهم في حياة الإنسان؛ فوهم الامتلاك هو المحرك الأساسي، يحرك الاقتصاد، ويحفز على البناء، ويدفع الاستثمار.
هل لذلك علاقة بما واجهته النظرية الماركسية من عثرات جسام وهزائم مريرة عند التطبيق؟ وهل من طريقة تعيد الاعتبار للأوهام في سعي الفلاسفة لكتابة قصة الحضارة؟