حين تُذكر لفظة رفح في أي حوار بين اثنين أو أكثر من المصريين البسطاء، يحتار المرء في تحديد أي معنى مقصود، فرفح ليست مجرد مكان أو معبر حدودي بين بلدين جارين، كان يشكل أحد منافذ الإغاثة الرئيسية الإنسانية لفلسطينيي القطاع، ونافذتهم الوحيدة للتواصل مع العالم الخارجي، أو هي مدينة قسم منها في غزة المحتلة، يقابلها قسم آخر بالاسم نفسه في الأراضي المصرية، ولم تعد المدينة الآمنة نسبياً، مقارنة بأخواتها من مدن القطاع وفقاً لمآلات العدوان الإسرائيلي على القطاع كله منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، مما دفع مليون نازح من الشمال والوسط إلى اللجوء إليها، وحولها إلى أكبر ملجأ مفتوح بلا موارد تساعد على الحياة، كما أنها ليست فقط المأوى الأخير لمقاتلي وأهم قادة الفصائل الفلسطينية وعمادها الأكبر «حماس».
رفح هي كل ذلك مضافاً إليه العملية البرية الإسرائيلية التي بدأت مراحلها الأولى قبل أسبوع، وأدت إلى سيطرة جيش الاحتلال على جزء مهم من جنوب القطاع، المعروف بمحور فيلادلفيا، وهو الفاصل بين حدود مصر وقطاع غزة، والذي كانت تحكمه تفاهمات مصرية - إسرائيلية - فلسطينية منذ عام 2005. بعد قرار إسرائيل الانسحاب الأحادي من القطاع آنذاك، وهي التفاهمات التي لم تعد الآن ذات معنى بأي حال، لا سيما في ضوء إصرار حكومة الحرب الإسرائيلية على ما تصفه استكمال متطلبات النصر، عبر عملية برية في مدينة رفح، للقضاء على آخر أربع كتائب من مقاتلي المقاومة، وتحرير من بقي من الرهائن.
المهم أن تداخل هذه المعاني يدفع عموم المصريين للتساؤل حول جدوى معاهدة السلام المصرية - الإسرائيلية، وهل يشكل احتلال إسرائيل لمعبر رفح وأجزاء من محور فيلادلفيا خرقاً لهذه المعاهدة يستدعي تحركاً مصرياً مناسباً؟ ثم ما هو هذا التحرك المناسب؟ وهنا تبدو المعضلة الأكبر التي تثير اتجاهات متناقضة في تحديد ما يجب أن يتم فعله رسمياً. ويُشار هنا إلى أن مصادر رسمية غير محددة أكدت على أن مصر مستعدة لكل السيناريوهات، يفهمها المتلقي على أنها سيناريوهات عسكرية وأمنية إلى جانب تحركات دبلوماسية لم تتوقف أصلاً، هدفها الرئيسي حماية الحدود من أي اختراق.
مفهوم اختراق الحدود، رغم وضوحه من الناحية العملية، من قبيل قيام أحد الأطراف بعبور خط الحدود عنوة لغرض احتلال الأرض كمقدمة لعدوان صارخ، فإنه يفرض على الطرف المُعتدى عليه اتخاذ تدابير الدفاع ورد العدوان، حينذاك تُلغى المعاهدة تلقائياً، وهو ما لم يحدث. لكن الكثيرين يتحسبون لمشهد من هذا النوع. هنا يحدث الاشتباك مع مفهوم انتهاك المعاهدة، الذي يُصر عليه قطاع من المحللين والإعلاميين بوصفه قد تم عملياً ويتطلب رداً حاسماً، لا سيما بعد تجول بعض الآليات العسكرية في جزء من محور فيلادلفيا على النحو الذي روج له جيش الاحتلال في تصوير قصير ولكنه لافت، حين مرت إحدى الآليات في عمق معبر رفح الفلسطيني، رافعة علم الاحتلال بحجم غير مسبوق، في رسالة فهمها الجميع على أنها تأكيد لسيطرة الاحتلال على المعبر، وإنهاء سيطرة الإدارة المدنية الفلسطينية التي هيمنت عليها حركة «حماس» سابقاً. لكن يظل تحديد حجم انتهاك المعاهدة غير واضح من الناحية القانونية، فأرض القطاع بأكمله هي أرض محتلة، وتحرك آليات الاحتلال في أجزاء منها، وهو الحاصل عملياً، وإن كان مكروهاً ومرفوضاً لما يترتب عليه من مخاطر مختلفة، فإن امتداده إلى جنوب القطاع يُعد بمثابة تحصيل الحاصل، ولا يمثل بالتالي انتهاكاً مباشراً لبنود المعاهدة، وإن حمل بعض المخاطر التي قد تتطور إلى تصرفات عدائية مباشرة.
قد تحدث بعض المخالفات من أحد الأطراف، وفقاً للمعاهدة مثل عدم الالتزام بإجراءات محددة في توقيتات محددة، أو تعديل في عدد القوات ونوعيتها في المناطق التي رسمت لها حدوداً جغرافية في سيناء، وأيضاً في المنطقة المسماة «د» في الجانب الإسرائيلي من الحدود. وثمة جهة لدى كل طرف تراقب هذه المخالفات، ويتم الإبلاغ عنها لغرض حلها أولاً بأول، في اجتماعات تُعقد لهذا الغرض. ومعروف أنه تم تعديل متفق عليه لعدد القوات المصرية وتسليحها في المنطقة «ج» المحاذية لخط الحدود، لمواجهة التنظيمات التكفيرية التي انتشرت في شمال سيناء قبل عقد من الآن، مما ساعد على هزيمتها.
والمتصور هنا أن جهة الرقابة المصرية تحلل طبيعة الأسلحة والآليات وعددها وعدد الجنود الإسرائيليين، في محور فيلادلفيا وما إذا كانت هناك مخالفة لما هو محدد في ملاحق المعاهدة، واتخاذ الإجراءات المنصوص عليها في المعاهدة نفسها لوقف هذه المخالفة.
آخر الخطوات التي اتخذتها مصر تمثل في رفض أي تعامل مع سلطات الاحتلال لتشغيل معبر رفح، إذ خطوة كهذه ستعني اعترافاً مباشراً بشرعية احتلال المعبر ومحيطه، وقبولاً لواقع جديد يُعتقد أن أحد أهم أهداف مصر، هو أن يكون للسلطة الفلسطينية دور رئيسي لما يعرف باليوم التالي لإدارة القطاع بعد وقف العدوان وتبادل الأسرى من الجانبين المتحاربين. القرار المصري سيادي بامتياز، وأبلغ لمن يعنيه الأمر، والمعنى السياسي في هذا الموقف المصري يمتد إلى هدفين آخرين يمثلان حجر الزاوية في السياسة المصرية تجاه العدوان الإسرائيلي؛ وهما منع تهجير الفلسطينيين قسراً تجاه الأراضي المصرية، والرفض الجازم لتصفية القضية الفلسطينية وفقاً للمخططات اليمينية الإسرائيلية.
من الناحية العملية، فإن استمرار سيطرة جيش الاحتلال الإسرائيلي على المعبر من الناحية الفلسطينية والامتداد غرباً ناحية المدينة، أياً كانت المزاعم التي تصدرها نخبة الحرب الإسرائيلية، سيقود إلى معضلة ذات شقين؛ أولها وقف قوافل الإغاثة، فالمعبر أصبح منطقة عمليات عسكرية وليس منطقة آمنة بأي حال يمكن أن تمر منها الشاحنات، ثم من هم الذين سيتولون تنظيم توزيع المساعدات إن دخلت في الوقت الذي تتعرض فيه المنطقة لقذائف الدبابات الإسرائيلية والاشتباكات المتكررة مع المقاومين، والمحصلة هي مزيد من المعاناة لأهل القطاع، وثانياً دمار رفح المدينة والمحور الممتد غرباً إلى البحر. هذا إلى جانب فقدان إسرائيل آخر أوراق ضغطها على المفاوضين لدفعهم لقبول كل الشروط الإسرائيلية للهدنة المقترحة بمراحلها الثلاث.