د. عبد الله الردادي
يحمل الردادي شهادة الدكتوراه في الإدارة المالية من بريطانيا، كاتب أسبوعي في الصفحة الاقتصادية في صحيفة الشرق الأوسط منذ عام ٢٠١٧، عمل في القطاعين الحكومي والخاص، وحضر ضيفا في عدد من الندوات الثقافية والمقابلات التلفزيونية
TT

الشلل الاقتصادي لن يطول

أيام عصيبة يمر بها العالم هذه الفترة، ففي غضون أسابيع قليلة تحول فيروس كورونا المستجد (كوفيد 19) إلى كارثة صحية، بعد أن كان انتشاره لا يتعدى مدينة ووهان الصينية. ولن يُنسى يوم 11 مارس (آذار)، وهو اليوم الذي اعتبرت فيه منظمة الصحة العالمية وباء كورونا وباء عالمياً. فمنذ تلك اللحظة قام كثير من الدول بفرض قيود على الحركة العامة وعلى الأنشطة الاقتصادية بهدف احتواء هذا الوباء ومنع انتشاره. ولشدة صعوبة التحكم بالأوبئة التنفسية، فقد فرضت بعض الحكومات قيوداً صارمة، وصل بعضها إلى حظر التجول، واتفق غالبيتها على إغلاق أماكن التجمعات، مثل الأسواق والمطاعم والمتنزهات. وتداول كثير غلاف صحيفة الإيكونوميست البريطانية، التي وضعت صورة لكوكب الأرض، وعليها لوحة مكتوب عليها «مغلق»، وكأنها تصف حالة الشلل التي يمر بها العالم الآن مع تفشي الفيروس وعدم التمكن من احتوائه حتى الآن.
وتواجه رؤوس الأموال تحدياً تاريخياً في الوقت الحالي، مع إدراك أن كثيراً منها لن يستطيع الصمود أمام حالة الشلل هذه، فغالبية الحركة التجارية تعتمد على السلوك الاستهلاكي، وبقاء الأسواق مغلقة قد يؤدي إلى إفلاس كثير من الشركات ممن لن يستطيعوا دفع التزاماتهم دون القيام بنشاطاتهم التجارية المعتادة. وهذا الإفلاس ليس من الإفلاس الصحي الذي يجدد الاقتصاد كما يحاول البعض تفسيره، بل هو إفلاس ناتج عن حالة طارئة تسبب بها عامل خارجي لا علاقة له بالنشاط التجاري. وقد شُبّهت هذه الحالة بما حدث في الأزمة المالية عام 2008 من ناحية تأثر التجارة العالمية. لكن الفارق هائل جداً بين الحالتين، فما حدث في الأزمة المالية كان أشبه ما يكون بتأثير «حجر الدومينو»؛ حيث تأثر القطاع المالي تسبب في انهيار قطاعات متعددة وإفلاس كثير من الشركات. كما أن زيادة حالة عدم الاستقرار المالي سبّبت إحجام رؤوس الأموال عن الاستثمار، وهو ما زاد الطين بلة، فزاد الكساد على إثره، واستمر لسنوات حتى عادت الثقة بعدها.
أما ما يحدث هذه الأيام فلا علاقة له بزيادة معدل الخطر الاستثماري في أي من القطاعات، بل سببه هو توقف الحركة التجارية بسبب المحاولات الحكومية لوقف انتشار الفيروس، وهو توقف ضروري للحفاظ على الأرواح البشرية ولا ذنب للقطاع التجاري فيه. وما يتداول هذه الأيام من وجوب تحمل القطاع التجاري الأضرار وحده يعد ضرباً من الجنون، فالقطاع الخاص والحكومات يعملان في منظومة اقتصادية واحدة، وعدم فعالية أحدهما ينتج عنه تضرر الآخر، ولو تخلت الحكومات اليوم عن القطاع الخاص، فعليها تحمل مستويات البطالة الضخمة التي ستتضح حين انكشاف الغمة، «وهو أثر واحد من آثار سلبية كثيرة». ولا أوضح من مثال النرويج التي أصبحت فيها معدلات البطالة اليوم 5.3 في المائة، بعد أن كانت 2.3 في المائة قبل شهر ونصف شهر، أي أن البطالة زادت إلى أكثر من الضعف.
ولذلك نجد أن كثيراً من الحكومات هبّت لنجدة القطاع الخاص، فالرئيس الفرنسي وعد ألا تواجه شركة خطر الإفلاس بسبب الفيروس، «وهو وعد قد يكون من الصعب المحافظة عليها»، وألمانيا وعدت بدعم مالي غير محدود لشركاتها، بما قد يزيد على 350 مليار يورو. وبريطانيا أعلنت عن قروض للشركات، تزيد قيمتها على 300 مليار باوند، وهو ما يعادل 15 في المائة من الناتج القومي البريطاني، والولايات المتحدة خصصت تريليون دولار لذات الغرض، «5 في المائة من الناتج القومي»، والسعودية أعلنت عن برامج لدعم القطاع الخاص، تفوق قيمتها 120 مليار ريال. والواقع أن الإعلان في حد ذاته ضروري لبعث الطمأنينة في القطاع الخاص عن المستقبل الاقتصادي.
إن ما يحدث اليوم لهو امتحان للعالم في مجالات عدة، فالمسؤولية الاجتماعية اليوم هي الفاصل بين تفشي المرض وانحساره، وطول أمد هذه الأزمة يعد اختباراً حقيقياً لتحمل الشركات للأزمات. إلا أن التوقعات تشير إلى أن هذه الأزمة «من الناحية الاقتصادية على الأقل» قد لا تستمر طويلاً، فالمتوقع أن تستمر آثارها حتى نهاية الربع الثاني من هذا العام، وبعدها قد يبدأ الاقتصاد العالمي في التعافي. وهذا التوقع مستند على الحالة الصينية؛ حيث كانت السوق المالية الصينية الأسوأ أداء في فبراير (شباط)، واليوم تعد السوق الصينية الأقل سوءاً في العالم بعد تمكن الصين من احتواء الوباء. كما أن 90 في المائة من الشركات الصناعية الكبرى في الصين عادت للعمل بشكل طبيعي. وهو مؤشر مبشر أن الوضع، على الرغم من سوئه اليوم، فإنه قد يعود طبيعياً بعد أقل من سنة من الآن.
كفى الله البشرية شر هذا الوباء، وأزاح الغمة عن المسلمين والعالمين.