TT

«كورونا»... وباء العولمة

قال الأولون: الخير يعمُّ والشر يعمُّ. الأوبئة وصنَّاعُها من الفيروسات رفيقة الوجود الإنساني، وهناك من العلماء من يقول إنها سابقة على وجود الإنسان ذاته على سطح الكرة الأرضية.
عانت البشرية على مدى العصور من أوبئة رهيبة، حصدت آلاف البشر في كل بقاع المعمورة. من الطاعون إلى الجدري والإنفلونزا وغيرها. في العصور الغابرة كان سكان كوكب الأرض قلة، يسكنون تجمعات صغيرة متباعدة. يقضي أغلبهم حياته في عمل مرهق كي يؤمِّن قوت يومه. الحركة من مكان إلى آخر محدودة جداً، وفي كثير من الأحيان منعدمة. فإذا حطَّ وباءٌ على قرية أو بلدة صغيرة أو نجع، فقلَّما ينتقل بسرعة إلى غيرها؛ بل إنَّ بعض القرى المتقاربة لا تسمع بما حلَّ بجارتها من وباء قاتل. لا وجود لمرافق يستعملها العامة من وسائل للمواصلات أو الخدمات. الأغذية بسيطة ومحدودة، والحياة رحلة عناء يكابدها الإنسان، ويعيش بما ينتجه جهده المحدود بمساعدة الدواب الهزيلة.
دخل الجنس البشري إلى دنيا جديدة بعد اختراع الآلة، وتغير وسائل الإنتاج، واتساع حركة الناس، وتبادل المنتوجات بينهم. بلدان كانت مغلقة، التنقل حتى في داخلها مقيد؛ خصوصاً الدول الشيوعية.
في بدايات القرن الماضي، كانت الطائرات التي تعبر أجواء العالم محدودة. لم تكن السياحة في برامج حياة الناس، لضعف ملأتهم المالية والقيود الحكومية على الانتقال من دولة إلى أخرى. المواطنون السوفيات والصينيون لم تكن لهم معرفة ببلدان أخرى غير مسقط رأسهم، وقلما يرون غريباً داخل أوطانهم؛ بل يمنع عليهم الاتصال أو الحديث مع أي غريب، مثل رجال البعثات الدبلوماسية الأجنبية. في العقود الأخيرة تحول العالم إلى دنيا جديدة عنوانها العولمة التي خلقت مجالاً جديداً للعلاقات الإنسانية، بمفاهيم وحركة مفتوحة بين قارات العالم غيرت كل شيء. وسائل الإعلام لم تبقِ شيئاً مستوراً بخيره وشره.
الصين التي كانت منغلقة على ذاتها تعيش في ظل ما سطَّره الزعيم ماو تسي تونغ في كتابه الأحمر. كانت عالماً قائماً بذاته، لا يخرج أهلها منها ولا يأتي إليها إلا قلة قليلة من خارجها. كانت أفكار ماو تسي تونغ تعالج المشكلات؛ بل والأزمات بترياق نظري حدي. عندما غزت الطيور حقول البلاد، أمر المواطنين بإطلاق الأصوات الصاخبة والضرب على الأواني الحديدية لمنع الطيور من الهبوط. ماتت الطيور في الجو، وتساقطت بالملايين على الأرض، وتحرك جيش بري من الحشرات ليقضي على الحبوب، بعد أن أُبيد عدوه اللدود الطير. وعندما باشر ماو في تنفيذ سياسة النقلة الكبرى الزراعية، وفرض على المزارعين إنتاج محاصيل محددة وتسليمها إلى الحكومة، خنقت البلاد مجاعة رهيبة أودت بحياة الملايين، ولم يستطع أحد أن ينبس ببنت شفة، ولم ترشح أخبار تلك الكارثة إلى الخارج الأبعد فترة ليست بالقصيرة.
تغيرت الصين بعد ماو تسي تونغ في كل شيء. رحل الكتاب الأحمر معه، وبقي الحزب الشيوعي الصيني كمنظومة سياسية وإدارية أمنية، تشكل حزاماً وطنياً يضبط المليار ونصف المليار مواطن. غابت الآيديولوجيا والشعارات. خرجت البلاد من قمقم الأسرار، وقامت رأسمالية نوعية لها من إبداعات الصين معادلات جديدة، وتحولت البلاد إلى مصنع عالمي شدَّ الملايين من كل بلدان العالم إليه الرحال، وانفتح المارد العملاق على الدنيا، وتحرك الصينيون ومنتجاتهم وأموالهم إلى كل مكان، وأصبحت الصين الدولة الثانية في العالم اقتصادياً.
العولمة لم تكن لتتجسد عملياً في العالم لولا التطورات التي صنعها دنغ هسياو بنغ في الصين الجديدة. فتح أبوابها لكل الجنسيات، صارت أرض السور العظيم بلاد كل البشر. سنة 2020 كانت سنة للصين الجديدة بلا جدال. استيقظ العالم على كائن غامض يسمى فيروس «كورونا»، انطلق منها إلى فجاج الدنيا التي دخلت حالة رعب لم تشهدها منذ الحرب العالمية الثانية. في أسابيع قليلة ارتجت الملايين في كل القارات رعباً من قاتل غامض طار من مقاطعة ووهان الصينية، وحطَّ في كل العالم، وتسابقت وسائل الإعلام تعلن حجم الإصابات، وتتحدث عن الأعراض والاحترازات المطلوبة. إنه داء العولمة الرهيب.
في السنوات الماضية، تحدث العالم عن فيروس ضرب بلدانا في وسط أفريقيا، اسمه «إيبولا»؛ لكنه لم يرعب العالم؛ بل إن هناك من لم يسمع به؛ لأن البلدان التي تفشى فيها لا علاقة لها بأغلب الدول؛ بلدان فقيرة ومعزولة. فيروس الإنفلونزا الذي يُعدُّ ضحاياه بعشرات الآلاف، لم يهزُّ الدنيا، وحتى فيروس «سارس» الذي نشر الحذر لم يكن له رهاب «كورونا» نفسه.
العولمة غيرت كل شيء في العالم بما لها وعليها. الإصابات تجاوزت المائة ألف، والقتلى آلاف في كل أنحاء العالم. لأول مرة في التاريخ الإنساني يشترك العالم، البلدان المتقدمة والنامية، في حالة طوارئ واستنفار وتحالف، من أجل عدو واحد، هو وباء مرعب اسمه «كورونا». تقيد حركة النقل، وتقفل المدارس، وتلغى الأنشطة الرياضية والفنية، ويرتبك الاقتصاد العالمي.
ماذا لو وُلِد هذا الفيروس في صين ماو تسي تونغ المغلقة، التي يقدمها للعالم على أنها الفردوس الموجود الذي لا يمرض الإنسان فيه ولا يشقى؟
بالتأكيد لن يكون له الانتشار نفسه، فالبلاد لم تكن مصنعاً ولا متجراً للعالم، والقليل من أهلها يجوبون أركان الأرض. ولن يسمع العالم به وإن قضى على الملايين في داخل الصين؛ لأن الحديث عنه يُعد خيانة لا يمحوها إلا الدم. من دون الصين الجديدة المصنع والسوق والسياحة والقوة الاقتصادية، لم تكن هناك عولمة بالشكل الذي نعيشه اليوم، بكل ما فيها من دفع وشد. العولمة التي جعلت من وسائل الاتصال الحديثة الفيروس الذي أزال قمقم السر الذي يخفي الأوبئة بالضرب على الأواني، والصراخ الآيديولوجي الذي يسقط طيور الحقيقة.
الصين الجديدة لم تخفِ حقيقة الفيروس، ودخلت معه في حرب الانضباط الذي حد حركة الناس في المناطق الموبوءة. بنَت المستشفيات، وانطلقت المعامل في البحث عن الترياق. وباء العولمة تحاربه بقوتها الطبية والإعلامية الجديدة.