عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

المثقف يرش الحظيرة بـ«البارفان»

قبل يومين، حضرت مناقشة طارئة في مجلس اللوردات، المجلس الأعلى في «أم البرلمانات» في وستمنستر، بشأن تنظيم عمل وسائل التواصل الصحافية البصرية والسمعية والاجتماعية. اللوردات أو الشيوخ هم حكماء القبيلة البريطانية، وهم غير منتخبين كحال مجلس العموم المؤلف من 650 نائباً يتلقون مرتبات ثابتة. اللوردات يتلقون مكافأة يومية مقابل حضور الجلسات. التعديلات الدستورية التي أدخلتها حكومة توني بلير العمالية (التخريبات الدستورية في قاموس التقليديين) بـ«قانون مجلس اللوردات لعام 1999»، أنقصت عدد اللوردات بالوراثة إلى 92 فقط، بينما بقية اللوردات بالتعيين، حسب تركيبة معقدة، تشمل رجال الدين من كافة الكنائس المؤسسات، كاثوليك، والكنيسة الإنجليكية، والمسلمين من كافة الطوائف والهندوس واليهود والسيخ والبوذيين. في كل عام توافق الملكة على تعيين عشرات من اللوردات الجدد باقتراح من رئيس الحكومة وزعماء الأحزاب. الاختيار يتم بناءً على ترشيحات الجمعيات الأهلية والاتحادات المهنية والأكاديميين والخبراء. باختصار مجلس اللوردات يضم بالفعل شيوخ الأمة في الطب والعلوم والرياضة وهندسة الإنشاءات والمواصلات والفنون وشتى المجالات.
مقدمة ضرورية لفحص توجهات المناقشة التي أُدرجت استجابة لقضايا أُثيرت في خطاب ألقاه أوليفر داودون الوزير الجديد للثقافة والفنون والرياضة والوسائل الصحافية في حكومة بوريس جونسون.
خطاب الوزير كان بشأن الاستجابة لمطالب شعبية ومجادلات كالنزاع حول المتحولين جنسياً، وتنافسهم الرياضي تحت لافتة «الجنس الجديد»، ما يعطي الرجال المتحولين إناثاً تميزاً عضلياً على النساء بالميلاد الطبيعي. الجدل والنزاعات الأخرى في مجال الصحافة والثقافة والنشر. الذي دفعني للحضور، هو الخطر الذي تتعرض له حرية الصحافة والتعبير في بريطانيا، خصوصاً من جانب اليسار الليبرالي والحركة النسوية والإسلاميين، الذين يريدون فرض رقابة على حرية التعبير، متحججين أحياناً بحق يراد به باطل، وأحياناً بحجج واهية لا ترقى لمستوى الأدلة، مثل «السيطرة الذكورية على المجتمع»، وأخرى بـ«الإسلاموفوبيا»، وثالثة بالإرث الاستعماري. ويتفرع من هذا الجدل المطالبة بإصدار قوانين لمراقبة وسائل التواصل الاجتماعي بحجة محاربة الأخبار الزائفة (فيكنيوز). المفارقة أن الوسائل الصحافية التقليدية والمؤسسات الكبرى كـ«بي بي سي»، و«سكاي نيوز»، و«سي إن إن»، تريد فرض رقابة على وسائل التواصل الاجتماعي، بينما الموقف الطبيعي لأي صحافي، وأي مؤسسة صحافية، هو الاستماتة في الدفاع عن حرية التعبير والنشر، ورفض الرقابة بأشكالها كافة.
الشبكات الكبرى ومؤسسات كـ«بي بي سي» متهمة بأنها تخشى الحرية والاستقلالية التي تمنحها وسائل التواصل الاجتماعي للمواطن العادي لاختيار ما يريد متابعته من الأخبار بنفسه، ما يهدد احتكار المؤسسات الكبرى للأجندة الإخبارية التي توجه الرأي العام. وكانت مناقشة دور «بي بي سي»، وتمويلها، محور اهتمام اللوردات، الذي احتل الجانب الأكبر من جلسة طويلة امتدت إلى ساعة متأخرة من المساء.
كما يعلم القراء، «بي بي سي» تتمتع بالاستقلالية بسبب تمويلها من الشعب، عن طريق رخصة التلفزيون التي تبلغ ما قيمته 207 دولارات لكل بيت. الرخصة إجبارية، وعدم دفعها يعرض الممتنع للغرامة، أو الحبس، أو الاثنين. إدارة «بي بي سي» تتهم حكومة المحافظين الجديدة باستهداف الهيئة بالعقاب، لأن المؤسسة العريقة في السنوات الأخيرة غلب على تغطيتها الصحافية الفكر اليساري. كان عدد من نواب المحافظين وعدد كبير من المعلقين، خصوصاً الليبرتاريين، يطالبون برفع مخالفة عدم دفع الرخصة من قانون العقوبات. وكتبت إحدى المعلقات التقليديات: «هيئة الإذاعة البريطانية نفسها ترفع راية حرية أن يختار مراهق تغيير جنسه، فلماذا تعارض حرية اختيار البالغ نوع الخدمة التلفزيونية التي يدفع رسومها؟». فهناك شبكات أخرى على الإنترنت كـ«آبل» و«نتفليكس» و«يوتيوب».
المدافعون عن بقاء الرخصة إجباريةً يركزون أدلتهم حول مسألة واحدة (good value for money)، أو أن القيمة من جنيهات الرخصة أعلى كثيراً من ثمن السلعة؛ مقولة تصلح لزمن النمط الرأسمالي القديم بشأن القيمة والثمن، وليس عصر ما بعد العولمة.
في جلسة اللوردات، ركز المدافعون عن الرخصة، وضرورة الحفاظ على «بي بي سي» بدعمها مادياً، على المقولة نفسها، مضيفين أنها أفضل وسيلة لحماية استقلالية الهيئة. الملاحظ أن كثيراً منهم من العاملين السابقين في الهيئة أو مقدمي برامج فيها بالتعاقد، أو مستشارين. أي من المنتفعين.
أزمة الشبكات التقليدية هي نفسها أزمة النخب المثقفة التي تدير شبكات البلدان العربية، وهي أزمة مألوفة للقراء. فالشبكات التلفزيونية والإذاعية الكبرى، مركزها العاصمة، أو المدينة الأكبر والأكثر تأثيراً اقتصادياً على مستوى البلاد. وهو سبب انخفاض شعبية شبكات كـ«بي بي سي»، فعزلة المثقفين في دائرتهم تبقيهم أقلية تحاور نفسها بعيداً عن أغلبية الشعب المطالب بتمويل نشاطهم.
المناقشة البرلمانية والعبارات المستخدمة فيها كانت بعيداً عن قدرة فهم المواطن البسيط، رغم أن أصحاب الجدل ادعوا أن إنقاص ميزانية الهيئة سيحرم البسطاء والفئات الشعبية من تقديم أعمال ذات مستوى عال.
الطريف أن الصحافيين، خصوصاً في المجال الإذاعي، ولسنوات، يسمون هيئة الإذاعة البريطانية «العمة» أو «عمتي». العمة من يلجأ إليها الأطفال هرباً من غضب الوالدين، لكنها مع الكرم دائماً تقدم النصح والمشورة، لأنها تعرف مصلحتهم أكثر مما يعرفونها!
الهيئة تغالت في هذا الدور، وقلدتها الشبكات الأخرى في توجيه النصائح للمستمعين والمتفرجين، وكأنهم أطفال قصّر وليسوا بالغين. نصائح، سواء في مجال الصحة العامة أو «بريكست» أو الانتخابات، أو في مسألة التغير المناخي، أو تغيير الجنس، أو الحركة النسوية، من منظور النخبة الليبرالية من الطبقة الوسطى في العاصمة، وهي أيضاً مقر الشبكات الأخرى.
البرنامج الإذاعي الصباحي في راديو «بي بي سي» يحدد الأجندة السياسية اليومية، ويقاطعه رئيس الحكومة ومعظم الوزراء متهمين الهيئة بعدم الحيادية. البرنامج يحاول منذ عام الخروج من العاصمة، لكنه يبقى في دائرة المثقفين. مرة كل شهر يقدم نصف البرنامج من جامعة خارج لندن كأكسفورد، وكمبريدج، وإدنبره، ويورك، وأيضاً تقلده الشبكات الأخرى. ولم يخطر ببالهم أن يقدموا بعض فقراته من مصنع في إحدى مدن الطبقات العاملة، أو من سوق زراعية في الريف، أو عن حياة الحمالين والصيادين في الموانئ.
وتذكرت الفيلم المصري من عشرينات القرن الماضي عن رواية «زينب» للدكتور محمد حسين هيكل، وإصرار مخرجه محمد كريم على غسل البقرة بالماء والصابون، ورش الحظيرة بـ«البارفان»، قبل تصوير الممثلة بهيجة حافظ في مشهد الفلاحة زينب تحلب البقرة!