عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

التاريخ لم يكتب فصل مبارك بعد

حدثان؛ بريطاني ومصري ترابطا في ذهني، كمؤرخ، يوم الثلاثاء. تلقيت نسختي (المخصصة للنقاد) من «المرايا والضوء» للروائية التأريخية الإنجليزية هيلاري مانتيل، يوم وفاة رابع رؤساء الجمهورية الأولى (1953 - 2011) في تاريخ مصر.
قد تنقشع غرابة ترابط الحدثين إذا أضفت ملاحظات متابعتي نزاع تواصل اجتماعي «لمثقفين» مصريين بشأن الجنازة الرسمية للرئيس الراحل محمد حسني مبارك (1928 - 2020) بحضور ثالث رؤساء الجمهورية الثانية، عبد الفتاح السيسي.
برر «مثقفون» رفضهم المتشدد لمبدأ إقامة جنازة رسمية بأن حكومة ورئاسة الراحل مبارك سقطت في انتفاضة (أو ثورة) شعبية كبيرة، وحضور الرئيس الحالي (السابع لمصر)، «إشارة باستمرار النظام». هؤلاء سودوا الفترة المباركية، وصموها بانتشار الفساد والمحسوبية وغسل الأموال ومحاولات نظامه لتوريث غير معتاد للرئاسة. المدافعون عنه رأوه حكيماً بتفضيله الاستقالة عزلة في شرم الشيخ على إغراق البلاد في حرب أهلية كحال بلدان انتفاضات 2011. ولم تخُضْ مصر حروباً آيديولوجية في عهده وأنهى عزلتها عن البلدان العربية. ذكروا دور سلاح الطيران بقيادته في توفير حماية معقولة، رغم عدم التكافؤ مع الخصم، أثناء حرب الاستنزاف (1967 - 1970) وتغطية تقدم الجيش المصري في حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973. قلة من المصريين كانت محايدة، وأقلية منهم تفحص فترته (1981 - 2011) بنظرة مؤرخين هواة.
كتبت رداً على الجميع: «في تكرار المؤرخ زيارته إلى ما نفض عنه الغبار من وقائع فترة تاريخية يكتشف، مع كل زيارة، أن صور صفحات كانت بالأبيض والأسود تصبح أكثر تلوناً».
الأديبة التأريخية مانتيل من مواليد مقاطعة دربيشير في 1952 بدأت النشر في 1985 لتحصل على ثلاثين جائزة أدبية بريطانية ودولية، ولها قصص قصيرة وسبع روايات، بجانب رواية من جزأين «كل يوم عيد الأم» 1985 - 1986، كوميديا سوداء تسجل واقعية عملها في الأحوال الاجتماعية. وأتمت ثلاثية برواية «المرايا والضوء» (الأولى «قصر الذئب» 2009. والثانية «استخراج الجثث المدفونة» 2012).
للتقريب نستشهد بثلاثيات نجيب محفوظ (1911 - 2006) كالثلاثية التاريخية («عبث الأقدار» 1939. و«رادوبيس» 1943. و«كفاح طيبة» 1944)، أو ثلاثية القاهرة («بين القصرين» 1956. و«قصر الشوق» 1957 و«السكرية» 1958). أبطال ثلاثية مانتيل شخصيات تاريخية حقيقية في رداء أدبي (ربما تطلع لهوليوود؟). نجيب محفوظ ابتدع شخصيات روائية كمزيج من شخصيات حقيقية ومفاهيم معاصرة. وهي أداة يلجأ إليها أدباء التاريخ، والمؤرخون التسجيليون لأسباب بعضها أمني أو أخلاقي كحماية سلامة أو سمعة من لا يزالون أحياء أو أبناؤهم وأحفادهم، أو لتجنب الملاحقة القضائية. في حالة مانتيل الدافع هو الحرفة لأنه أسلوبها الخاص في الصياغة.
وكثلاثية محفوظ في دقتها تصويراً للحياة الاجتماعية وتأثرها بالأحداث السياسة، نقبت مانتيل بدقة في وقائع موثقة بمراسلات وسجلات من خمسمائة عام بخط اليد، باللاتينية والفرنسية والإسبانية. ثلاثية مانتيل المعروفة باسم «قصر الذئب» بطلها توماس كرومويل (غير أوليفر كرومويل جنرال الحرب الأهلية بعد مائة عام). كان توماس كرومويل (1485 - 1540) وزير الملك هنري الثامن (1491 - 1547).
الثلاثية غيرت مفهومنا ومعلوماتنا عن السياسة الإنجليزية الداخلية والخارجية في القرن الخامس عشر التي تعلمناها في المدارس (لمن لم ينتظم في المدارس الإنجليزية سيجد معلومات هذه الفترة في كتب وزارة المعارف المصرية في العشرينات والثلاثينات سواء لمناهج تلاميذ الإنجليزية أو بالعربية عن الانتقال من القرون الوسطى إلى عصر النهضة والإصلاح الديني الأوروبي في مناهج التاريخ).
كرومويل ساعد سيده هنري في تطليق زوجته الأولى كاثرين الإسبانية (148 - 1536) - تبعت إنجلترا وقتها كنيسة الفاتيكان الكاثوليكية التي تحرم تعاليمها الطلاق - ليتزوج الشابة آن بولين (1501 - 1533). وصورت كتب التاريخ كرومويل بقبح الشرير في رسوم الكاريكاتير، قاسياً لا يرحم في إقصاء خصومه. أكبر سيئاته تآمره لاعتقال توماس مور (1478 - 1535) مستشار الدولة ورئيس القضاء (قاضي السلطان في المفهوم العربي) مؤلف «يوتوبيا» (1516)، فمحاكمته بتهمة الخيانة العظمى وإعدامه، الذي رأته الكنيسة للمبادئ فأصبح سانت توماس. وصنفته الكتب المدرسية بالمثالي الذي وضع إيمانه بالله قبل ولائه لهنري وكان وقتها يعني الولاء للوطن.
بعد أكثر من نصف قرن وجدتني أعيد النظر في السير توماس مور كما وصفه أستاذ التاريخ وقتها (وكان آيرلندياً كاثوليكياً ولم أكن واعياً عندئذ بالعمق السياسي الديني للصراع التاريخي الدموي الإنجليزي الآيرلندي). كان مور شيطاناً في تعذيبه الخصوم الدينيين وكان ميكافيللياً في تفسيرات دينية قانونية ساقت أبرياء إلى بلطة الجلاد، وكان مدافعاً عن سطوة رجال الكنيسة في مقاومتهم للتطور. ونكتشف أن توماس كرومويل كان إصلاحياً تقدمياً وكان وراء قسوته وتآمره دوافعه الوطنية ضد مقاومة توماس مور لحركة «الريفورميشين» الإصلاح الديني السياسي لتأسيس الكنيسة الإنجيليكية كبداية تحرر العقل الإنجليزي من جمود ذهنية الفاتيكان. خطوة مهدت لترجمة الملك جيمس الأول (1566 - 1625) للكتاب المقدس للإنجليزية في 1611 ليتمكن المواطن البسيط من تفسير دينه خارج إطار احتكار الكهنة، ما أنهى سيطرتهم على عقول الناس وفتح الباب لأكبر إصلاح ديمقراطي في القرن التالي. الفضل في وجودنا في أم البرلمانات كممثلي السلطة الرابعة لمراقبة عمل الحكومة يعود لحركة إصلاح بدأها رجل وصفه التاريخ المدرسي بشرير.
فصول تاريخ القرن الخامس عشر لا تزال تحت الفحص والتفسير، فما بالك بتاريخ رئاسة مبارك الذي لم يدون بعد؟
وقد يتساءل القارئ لماذا تسمية «الجمهورية الأولى» لحقبة بدأت (1953) برئاسة اللواء محمد نجيب يوسف قطب القشلان (1901 - 1984) وانتهت بنقل السلطة من الرئيس مبارك (2011) إلى المجلس العسكري؟
إنه اجتهادي كمؤرخ التقيت ثلاثة زعماء (الوحيد بلا رسميات كان الراحل محمد نجيب وكان لا يزال في غرفة عارية الأثاث ممنوعاً من الظهور العلني رغم رفع 17 عاماً إقامة جبرية عنه في 1971) بتحديد 2011 كنقطة فاصلة غيرت ملامح المؤسسة السياسية بقطع تقليد انتقال رئاسة لأخرى، بفترة «استراحة» 20 شهراً (حكم المجلس العسكري) حتى بداية الجمهورية الثانية في 2012.
التاريخ ليس كتاباً ثابتاً، وكل صفحة هي حصيلة مئات الكتب والدراسات وآلاف التقارير والملاحظات والمراسلات. وغالباً سيراجع باحثون في حياتي أو بعدها اجتهاداتي ليدعموا تسميتي أو يعدلوها، وغالباً سينقسمون. في الحالة الأخيرة أرجو أن يكونوا أكثر موضوعية وتهذباً من المتراشقين اليوم بشأن مبارك على «فيسبوك».