نبيل عمرو
كاتب وسياسي فلسطيني
TT

مبارك... محطات في الملف الفلسطيني

شاءت الظروف والوظيفة أن ألتقي الرئيس مبارك مرات عدة خلال عهدين فلسطينيين: عهد عرفات وعهد عباس.
الفترة التي أراها مميزة هي تلك التي ازدهرت فيها عملية أوسلو، ودخلت في بداياتها مرحلة التطبيق الفعلي على الأرض. في تلك الأثناء أدى الرئيس المصري وبقوة دور المشجع والداعم لعرفات، والمثبت له داخل المعادلة السياسية الجديدة والصعبة التي انتقل فيها الزعيم الفلسطيني - ولو على مضض «في بعض الحالات» - من موقع الخصم الجذري لإسرائيل، والمقاتل الدؤوب ضدها، إلى موقع المفاوض، ولكن تحت أسقف منخفضة، تشكل مستنبتاً دائماً للتعثرات والشكوك والانهيارات.
ولقد ازدادت مهمة مبارك تعقيداً حين جرى الانقلاب الدراماتيكي في إسرائيل، إذ غاب ثنائي السلام عن المشهد: رابين بالموت، وبيريس بالسقوط، ليحل محلهما ثنائي فاز في الانتخابات تحت شعار صريح، هو تدمير «أوسلو» وما نتج عنه.
وفي عهد الثنائي شارون - نتنياهو، ضاق الهامش الذي كان متاحاً قبل هذا الانقلاب، فتضاعف الاستيطان على نحو غير مسبوق، حتى في فترة ما قبل عملية السلام، وكشَّر اليمين الإسرائيلي عن أنيابه، فنقل اتفاقات وتفاهمات أوسلو من واقع الالتزامات المتبادلة إلى واقع مختلف، قوامه التطبيق الأحادي من جانب إسرائيل لما تراه مصلحة لها، دون منح الفلسطينيين أي مزايا جدية على أي مستوى.
كانت نصيحة الرئيس مبارك لعرفات، ألا يصل به الغضب من السياسة الإسرائيلية الاستفزازية إلى حد مغادرة عملية السلام، فهو لو فعل ذلك فسيفقد وضع الشريك ليضع نفسه في مواجهة مع القوى الدولية التي لا تزال ترى إمكانية في إنقاذ السلام، رغم كل العثرات التي حدثت في عهد الثنائي نتنياهو - شارون.
في تلك الفترة الحرجة نشطت الدبلوماسية المصرية، وصارت القاهرة وشرم الشيخ مركز جهد استثنائي مواظب، تحت عنوان إعادة قطار التسوية إلى السكة، وإبعاد المشروع المتعثر عن الانهيار.
غاب عرفات بفعل الموت، وحل محله محمود عباس بفعل التراتبية العائلية في «فتح» والسلطة، وبفعل الرهان على أن عباس ربما يجسد فرصة معقولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من العملية السياسية المنهارة. واصل الرئيس مبارك حث الفلسطينيين على الصبر والتحمل والحفاظ على دور الشريك المباشر، مستخدماً قنواته - وخصوصاً مع الإسرائيليين والأميركيين - لوقف المغالاة في الضغط على الفلسطينيين، وعلى هذا الصعيد كان مستحيلاً على الرئيس مبارك وحتى الرئيس الأميركي وكل زعماء أوروبا إنقاذ العملية السياسية، وتخليصها من براثن الثنائي الشرس سياسياً وعسكرياً، شارون - نتنياهو.
غير أن تحدياً جديداً فرض على الرئيس مبارك مواجهته في الشأن الفلسطيني، هو الانقسام. ومنذ وقوعه إلى أن غادر مبارك السلطة كانت القاهرة هي عاصمة الجهد الفعال والمواظب لإنهاء الانقسام. وقد كلف اللواء القوي عمر سليمان بمعالجة هذا الملف حد التفرغ له. في هذه الفترة عُينتُ سفيراً لفلسطين لدى مصر، وخلال العامين اللذين عملت فيهما سجلت الوقائع أكبر كم من اللقاءات بين الرئيس الفلسطيني والرئيس مبارك، وبحكم وظيفتي كنت حاضراً في جميع هذه اللقاءات، وكان منطقياً أن يكون الانقسام هو أهم بند على جدول أعمال اللقاءات كلها، إذ لم يكن هنالك أي مساحة واقعية للبحث في عملية السلام المنهارة؛ بل ولا مجال واقعياً رغم كثير من المحاولات لإعادتها إلى العمل.
اضطر الرئيس مبارك للتنحي عن منصبه بعد حكم دام ثلاثة عقود، وظهر اجتهاد بأن ذلك جاء وفق معادلة اضطرارية: التضحية برأس النظام من أجل إنقاذ النظام ذاته، غير أن هذه النهاية المأساوية لمبارك والتي لا يستحقها والتي كان يمكن تفاديها، لم تمحُ من تاريخه مآثر تسجل له. فهو المحارب الذي خاض كل حروب مصر والعرب، من رتبة ضابط صغير إلى رتبة قائد أعلى للقوات المسلحة. ولقد دخل سجل الشرف العسكري حين أثبت جدارة لافتة في حرب أكتوبر (تشرين الأول)؛ حيث كان أداؤه في الضربة الجوية الصاعقة التي حددت مصير الحرب كفيلاً بمنحه لقباً شعبياً يعتز به: بطل الضربة الأولى الحاسمة. وفي عهده، قاد معركة بالغة الشراسة والتعقيد ضد الإرهاب الذي استفحل في المدن والمرافق الأساسية، وتمكن من دحره وتخليص مصر من شروره الكارثية. وأذكر هنا أنه وفي أوج هذه الحرب، اتخذ قراراً حاسماً حين استضاف مؤتمر القمة الأفريقي في القاهرة، متجاهلاً نصائح كثيرة بالعدول عن الاستضافة، خشية تعرض الزعماء الأفارقة للقتل على يد الإرهاب. وقد سجل الرجل نجاحين في قرار واحد: نجاح القمة، ونجاح الأمن.
الخلاصة: كان مبارك محارباً متمكناً، وسياسياً هادئاً، وحكيماً، وفعالاً، وبالنسبة للفلسطينيين كان ناصحاً مخلصاً وصريحاً خلال عهدي عرفات وعباس.
رحمه الله، وأقدر أن التاريخ سينصفه.