خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

من طرائف نهر دجلة

ما إن أتمّ أبو جعفر المنصور بناء مدينة بغداد؛ حتى ظهرت مشكلات هذا البناء. فقد اضطرت البلدية إلى إقامة جسر خشبي يمكّن الناس من العبور بين الجانبين؛ جانب الكرخ وجانب الرصافة، كما ذكرت سابقاً. غير أن وجود الجسر خلق مشكلة أخرى، وهي مشكلة المراكب في المرور شرقاً وغرباً. اضطرت البلدية إلى قطع الجسر عند الظهيرة لتمكن المراكب من المرور. وكان هذا يضطر المارة إلى عبور النهر بالزوارق المعروفة بـ«البلم». عاش البلامون مما يتقاضونه من الركاب الذين يفضلون عبور النهر بهذه الزوارق حين انقطاع الجسر.
كان مجلس النواب مشيداً على جانب النهر. اضطر ذلك الكثير من النواب إلى عبور النهر بهذه الزوارق للوصول للمجلس في مواعيده. وكان لذلك مشكلاته أيضاً.
عندما توفي البلام أبو حسينو لم يترك لولده حسينو غير ذلك البلم (الزورق) الخشبي. وبذل حسينو جهده لكسب العيش له ولأسرته من ذلك البلم؛ الأمر الذي يتطلب عضلات قوية في الذراعين والساقين أيضاً، لا سيما في أيام الفيضان حين يصبح التيار شديداً. لا ينتهي النهار إلا ويكون الرجل قد أنهك نفسه بشكل مرير. اضطره ذلك إلى شراء حمار صغير ينقله من البيت في محلة الصابونجية إلى «شريعة» الميدان المجاورة لمجلس النواب. يربط الحمار في شاطئ المجلس ويتسلم زورقه ليباشر عمله اليومي. وقد أتقن الحمار الصغير واجبه.
فما كان يرى صاحبه قادماً حتى ينوخ قليلاً بجسمه نحو الأرض ليمكن حسينو من امتطائه بسهولة. ولم يكن وحيداً في هذا الواجب. كانت هناك حمير أخرى تقوم بالمهمة نفسها. هذا مما يجعل المرء يتساءل في ذلك الزمان؛ الثلاثينات: لماذا لا يقوم النواب بالمهمة نفسها؛ يركبون الحمير في سيرهم بين بناية المجلس وبيوتهم بدلاً من عبور النهر بالزوارق؟ ولكن هذا يتطلب بعض التفكير، وهو ما يفتقر إليه البعض منهم.
لم يكن ربط الحمار بحائط المجلس أمراً هيناً على حسينو. فخلال النهار الطويل، كثيراً ما اضطر هذا الحيوان البسيط إلى قضاء حاجته هناك. لم يدرك أنه أمام بناية رهيبة يتوقف عليها مصير العراق. فكان يتغوط على رسله. وبمرور النهار تتكدس أكوام كبيرة من الروث الحماري على مرأى من عيون حضرات النواب. فتعالت الاعتراضات والاحتجاجات.
لم يتمالك مأمور البلدية نفسه وأن يفرض دينارين غرامة على حسينو البلام. ولكن الحمار لم يفهم ذلك فتكررت المخالفة والغرامة. أدرك حسينو أنه في نهاية النهار سيذهب في الغرامات كل ما كسبه من أجور البلم. قيل له إن من له شكوى يرفع شكواه لنواب المجلس. وعرف بأن رئيسهم عبد العزيز القصاب، فانتظر خروجه بسيارته. حمل مجدافه وراح يضرب السيارة فأوقفها. ما هذا وماذا تريد؟ سأله رئيس المجلس، فحكى له عن محنته. شلون أعيش إذا كل يوم أدفع غرامة دينارين؟
كان عبد العزيز القصاب رجلاً طيباً مع الناس ومع الحمير. أخرج دينارين من جيبه وقال للبلام: ادفع الغرامة بهذين الدينارين وغداً سأكلم البلدية ألا يتعرضوا لحمير المجلس.