ستيفن ميهم
TT

التاريخ القبيح لتوجيه اللوم إلى الأقليات العنصرية

مع تفاقم حجم تفشي فيروس «كورونا» من حيث الحجم والنطاق، ثمة جانب قبيح للأمر بدأ في الاتساع: التمييز.
داخل الصين، يجري التعامل مع أبناء إقليم ووهان وكأنهم مصابون بالجذام. وفي الخارج، نعاين تواتر تقارير متعددة حول إساءات لفظية واعتداءات بدنية موجهة ضد الصينيين، ونفور من المطاعم الصينية وأماكن أخرى على صلة بالصين.
وللأسف الشديد ليس هذا بالأمر الجديد، ذلك أن الموجات السابقة من تفشي الأوبئة غالباً ما سارت يداً بيد مع مشاعر تحامل قبيحة، وألقي اللوم على مجموعات عرقية وعنصرية مختلفة عن المرض المستشري. ومع ذلك، فإن هذا السلوك الذي كان شائعاً فيما مضى، دائماً ما كان يؤتي نتائج عكسية لأسباب شديدة الوضوح، فالأمراض لا تمارس التمييز. الحقيقة أن فيروساً مثل «كورونا» يأتي بمثابة تذكير لنا جميعاً بإنسانيتنا المشتركة.
ودعونا نعود إلى الوراء، ونمعن النظر في حادث تفشي وباء الطاعون الدملي، الذي اشتهر باسم «الموت الأسود». غزا هذا الوباء أوروبا عام 1348، وحصد أرواح ربع سكان القارة في غضون سنوات قلائل. ومع تفاقم أعداد الوفيات، بحث كثير من المسيحيين عن تفسير وسبيل لوضع نهاية للوباء.
ولجأ هؤلاء إلى معاداة السامية، ونظراً لتمكن بعض المجتمعات اليهودية بادئ الأمر من الفرار من قبضة الوباء، اتهمهم مسيحيون بأنهم العقل المدبر وراء تفشي الوباء. ولافتقارهم إلى نظرية نشوء الأمراض بسبب الجراثيم، زعم هؤلاء المسيحيون أن اليهود سمموا مياه الآبار، أو مثلما ادعى أحد المخبولين من أصحاب نظرية المؤامرة من العصور الوسطى، فإن اليهود «سعوا لمحو المسيحية بأكملها، وذلك عبر السموم التي يبتكرونها من مزج الضفادع والعناكب داخل الزيت والجبن».
وانطلق هؤلاء المتشددون في حملة سفك دماء لم تقل رعباً عن الوباء ذاته. وأصبحت المئات من المجتمعات اليهودية التي تركز كثير منها فيما يعرف اليوم بألمانيا، هدفاً لحملات إبادة. وفي ميادين بعض المدن، جمعت حشود من الغوغاء مجموعات من اليهود وحرقوهم أحياءً بشكل جماعي.
وكتب أحد المؤرخين الذي كان بمثابة استثناء؛ لأنه أبدى شعوره بالتعاطف مع الضحايا، أن «نساء وأطفالهن الصغار أُلقوا بقسوة ودون إنسانية في النيران».
ومع ذلك، استمر الوباء في التفشي، وأهلك في طريقه تلك المجتمعات ذاتها. وبذلك اتضح أن الإبادة الجماعية لن تبقي الوباء بعيداً.
ولحسن الحظ، فإن ردود الفعل تجاه الحوادث اللاحقة لتفشي أوبئة، نادراً ما بلغت مستوى هذه الموجة من حيث الوحشية. ومع هذا، استمر النمط العام المتمثل في استخدام الغرباء ككبش فداء، مثلما كان الحال مع ذلك الاعتقاد الغريب القائل بأن القضاء على الغرباء - أو على الأقل وقف الاتصال بهم - سيحميك من الوباء.
وتكرر السيناريو مع تفشي مرض الزهري في القرن الخامس عشر. وعلى خلاف الحال مع «الموت الأسود»، حصد الزهري أرواح ضحاياه ببطء (وإن كان على نحو مؤلم) ولم يشعل حالة الذعر نفسها التي صاحبت تفشي الطاعون. إلا أنه مع تفشيه عبر مختلف أرجاء أوروبا، وألقى سكان كل منطقة باللوم عنه على أجانب آخرين، واعتبروهم مسؤولين عن التقرحات والالتهابات والجنون الذي يبتلى به المصاب نهاية الأمر.
ومثلما شرح أحد المؤرخين، فإن: «الحركة المتزايدة للأفراد عبر الحدود الوطنية عززت الحاجة لحماية الحدود الاجتماعية. ووصفت كل جماعة وطنية أوروبية الزهري باعتباره مرض الأمم الأخرى». وعليه، ألقى الألمان اللوم على الفرنسيين، واصفين الوباء بأنه «مرض فرنسي». أما الفرنسيون، فألقوا اللوم بدورهم على الإيطاليين. وفي وقت لاحق، ألقى البولنديون اللوم على الروس، وألقى الفرس اللوم على الأتراك، وألقى المسلمون اللوم على الهندوس، وألقى اليابانيون اللوم على البرتغاليين.
بالطبع كان هذا أمراً سخيفاً، ومع هذا ظلت الفكرة المسيطرة تدور حول إمكانية تجنب المرء لمرض ما من خلال إقصاء الأشخاص المختلفين عنه، ولا يزال كثيرون يجدون هذه الفكرة جذابة حتى يومنا هذا، رغم أنها تمثل توجهاً مضللاً بشدة إزاء التعامل مع الأمراض.
في الواقع، في الوقت الذي تجنب فيه الألمان بحرص الاختلاط بالفرنسيين، وعمد الفرنسيون إلى تجنب الإيطاليين، استمر الزهري في اكتساح أوروبا.
وحدث أمر مشابه في الولايات المتحدة؛ حيث أدت موجات من الهجرة إلى إحداث تحولات جوهرية في البلاد على امتداد القرن الـ19. ووجدت كل مجموعة عرقية جديدة تفد إلى البلاد نفسها متهمة بأنها تحمل مرضاً مفزعاً. ومثلما الحال اليوم، وجد أبناء المجموعات الوافدة أنفسهم محط ازدراء من حولهم، وأصبح الآخرون يتجنبون التعامل معهم قدر الإمكان.
ويتجلى هذا السيناريو في التجربة الآيرلندية، ذلك أنه مطلع القرن الـ19 هاجر آيرلنديون إلى الولايات المتحدة بأعداد متزايدة. وللأسف، تزامن وصولهم مع تفشي الكوليرا في عدد من المدن. ومن وجهة نظر النخبة البروتستانتية التي كانت تمقت الكاثوليك، بدا من الطبيعي افتراض أن الوافدين الجدد الغرباء لا بد من أنهم هم من حملوا معهم المرض الذي أصبح يعرف باسم «المرض الآيرلندي».
وربما يفسر ذلك السبب وراء إقدام كثير من الأطباء المشهورين على نصح مرضاهم بقوة، بتجنب تناول المشروبات الكحولية القوية، ذلك أنهم كانوا يخبرون المرضى: «لا تشربوا الويسكي مثل الآيرلنديين، وإنما عليكم شرب الماء». أما المفارقة فكانت أن هذا تصادف أنه الوسيلة الأقوى للإصابة بالكوليرا في المقام الأول. كانت الكوليرا قد انتشرت عبر آبار محلية ملوثة. وبذلك نجد حجم الغباء الذي تنطوي عليه مكافأة المرض بالعرق.
وسرعان ما وجدت مجموعات أخرى نفسها مشوهة الصورة جراء ارتباطها بالمرض. على سبيل المثال، فإن المهاجرين اليهود الذين كانوا بمثابة كبش الفداء، واتُّهموا بحمل الطاعون والتيفوس إلى أوروبا، اتُّهموا كذلك بنقل السل إلى الولايات المتحدة.
وأطلق على السل «المرض اليهودي» أو «مرض الخياط»، بالنظر إلى أن كثيراً من اليهود امتهنوا هذه المهنة. وانطلق كثير من المعادين للسامية بسعادة في نشر هذه المزاعم والترويج لها، مشيرين إلى أن اليهود بطبيعتهم أصحاب أجساد مريضة وواهنة، على النقيض من «الأنغلو - ساكسون» أصحاب البنية القوية.
في الواقع، لم يكن لهذا الاعتقاد أي أساس. الحقيقة أن المهاجرين اليهود كانوا يتسمون بعمر متوقع أطول عن نظرائهم من أبناء الولايات المتحدة، ومستويات إصابة أقل بالسل. ومع هذا لم تفلح هذه الحقائق في وقف «أصحاب النظريات العنصرية» عن استغلال هذه الادعاءات في تبرير إجراءات قمعية ضد الهجرة في عشرينات القرن الماضي.
وسارت موجات أخرى من تفشي الأمراض على النهج ذاته. عام 1916 حدثت موجة تفشٍّ واسعة لمرض شلل الأطفال في نيويورك، دفعت الأطباء لإلقاء اللوم على مجموعة مختلفة من العوامل، حتى استقروا نهاية الأمر على المهاجرين الإيطاليين باعتبارهم السبب. وعليه، حرص أبناء نيويورك بشدة على تجنب الاتصال بالإيطاليين بأي صورة من الصور، لاعتقادهم بأنهم يحملون المرض. ورغم ذلك، انتشر شلل الأطفال في كل الأحوال؛ بل وفي الفترة التي ألقي اللوم فيها على الإيطاليين كان قد اخترق صفوف قطاع أوسع من السكان.
وتكمن واحدة من المشكلات الكامنة وراء تحديد مجموعة بعينها باعتبارها الحامل الوحيد لمرض ما (أو السبب في انتشاره) في أنها تعمي أنظار المجتمع عن واقع الفيروسات والبكتيريا التي لا تأبه لما إذا كنت من ووهان أو واشنطن. إذا كان قلبك ينبض، فهذا يعني أنك ستكون عائلاً ممتازاً لها.
اليوم، ومع ظهور حالات متفرقة للإصابة بفيروس «كورونا» بمختلف أرجاء العالم، يبدو حالياً أنه من المحتمل أن تنتقل إليك عدوى هذا الفيروس من شخص آخر يشبهك تماماً.
* بالاتفاق مع «بلومبرغ»