حسين شبكشي
رجل أعمال سعودي، ومستشار اقتصادي لعدد من الشركات الخليجية الكبرى، وعضو مجلس إدارة ورئيس مجلس إدارة في عدد من الشركات السعودية والأجنبية. نشر العديد من المقالات في مجالات مختصة، وفي صحف ومجلات عامة في العالم العربي. اختير عام 1995 «أحد قادة الغد» من قبل «المنتدى الاقتصادي العالمي» في دافوس. أول رجل أعمال سعودي وخليجي ينضم إلى «منتدى أمير ويلز لقادة الأعمال».
TT

الخريف العربي!

أراجع نفسي في المفردات التي مرت عليّ ولها علاقة بكلمة «الربيع»، فأتذكر أغنية «الربيع» للموسيقار الكبير فريد الأطرش، وأغنية الفنانة سعاد حسني «الدنيا ربيع»، و«إجازة الربيع» المدرسية، والمطرب ربيع الخولي الذي اعتزل الغناء وتفرغ للرهبنة في لبنان، والنحات السوري ابن حمص ربيع الأخرس الذي تملأ أعماله كورنيش عروس البحر الأحمر بجدة، إلا أن اللفظ يبدو أخيرا قد جرى احتكاره لصالح معنى واحد فقط، وهو «الربيع العربي»، الاسم التوصيفي الذي يشرح الحال الذي تحولت إليه بعض الدول العربية خلال فترة السنوات الثلاث التي مضت، ولكن لا يوجد أي «دليل» ملموس حتى الآن على أن ما يحدث هو «ربيع» بالفعل، بل إن ما حصل كان «تفجيرا» للعقد والمصائب والمشاكل والعلل والأمراض والمخاوف.. كان البركان الكبير الذي لا يزال العالم العربي يرى حممه تتصاعد وتتساقط من حول الجميع.
الكل يبحث ويتحاور ويتناقش في المآسي الناتجة التي جاءت مع حالة «الربيع العربي»، وظهور الجماعات المتطرفة، وخروج القَمَم العشائري والقبلي في أقبح صوره، وطغيان الفكر المتشدد والإقصائي باسم الحريات والديمقراطية.. نفرَ من هذا المشهد البائس المخيف الحزين كل الطامعين وناشدي الحرية والكرامة والعيش بأمان وسلام، وحدثت لهم الصدمة النفسية العظيمة لأحلامهم وطموحاتهم وآمالهم الكبرى. وبالتالي، فمن باب العدل ومن باب الإنصاف والأمانة القول أن يجري النظر في حال «الخريف العربي» الذي كانت عليه البلاد العربية قبل ظهور «الربيع العربي» بتداعياته المختلفة والمتنوعة.
الخريف العربي هو الحال الذي لا يجرؤ أحد على تشخيصه بشكل حقيقي ومتكامل، الخريف العربي كانت له ملامح، أهمها التطرف الذي توغل في الذهنية العربية بشكل مرعب حتى جُزِّئ بين الهوية الدينية العامة والشعبية، يختلط فيه الدسم والعسل كما يختلط السم فيهما، فينمو ويترعرع، وكذلك الأمر بالنسبة لمنظومتي الفساد والاستبداد اللتين تحولتا إلى أداة لخنق الشعوب وتحطيم أحلامهم والوقوف أمام طموحاتهم كالأسوار العظيمة. وطبعا أتت ظواهر الخريف العربي صادمة ومدمرة لأجيال متتالية من الشباب وهم يجدون أنفسهم «محارَبين» اجتماعيا ومعانين من تطرف عنصري يعاملهم كطبقات غير متساوية في مجتمع واحد، وبناء عليه يجري «توزيع» هذه الفئات على المدارس والمعاهد والجامعات والابتعاث والوظائف والترقيات.. إنها جميعا أوجه للتفرقة العنصرية التي فرقت المجتمعات، وأثرت بالتالي على مناخ الحريات والعدالة فلا يتحقق أي منهما.. إنها القسمة العجيبة. وطبعا مع انحسار مساحات الحريات وارتفاع الإحساس بالتشكيك والقلق والخوف من «الآخر» تزداد الرغبة في التبويب والتصنيف، فهو حل مريح ما داموا «هُم» «غيرنا».. يكون الجواب مريحا وينهي المشكلة ولكنه يولد كارثة: مجتمعات ممزقة وهشة وضعيفة يشك بعضها في بعض وتزيد مساحة المحسوبيات والأنصار لتتحول المؤسسات إلى مرتع لهم بامتياز في ظل غياب تام لمنظومة الثواب والعقاب، وفقدان تام لمنظومة العدالة الاجتماعية.. لا ريب أن يرتفع الإحساس بالظلم والغضب في ظل عدم وجود «فرصة عادلة» للسعي وراء الحلم واللحاق بالأمل، خصوصا في ظل خطاب ديني يصرخ ليلا ونهارا «عليك أن تأخذ بالأسباب»، كيف يكون الحل إذا عطلت الأسباب بسبب تشعب الظلم والفساد؟! إنها المعضلة العظيمة، إنها الأرضية التي جرى تأسيس عناصر الخريف العربي عليها.
تعلق العرب اليوم بتقييم أعراض «الربيع العربي»، متناسين ومتجاهلين أصل العلة والمرض، وهي لا تزال موجودة وبألف خير! فالفساد والاستبداد والتطرف والعنصرية لم يجر مواجهتها بالجرأة المطلوبة، ولا يزال التعامل معها جميعا بحذر ولباقة ودبلوماسية شديدة، وبالتالي يكون «العلاج» غير مجد وغير مؤثر وغير فعّال، وهو ما يفسر استمرار «الحال» كما هو عليه في أذهان الكثيرين.
الخريف العربي هو أساس المشكلة وليس الربيع العربي، فـ«الربيع» هو مجرد أعراض لمرض عضال لم يجر مواجهته حتى الآن.