حنا صالح
صحافي وكاتب لبناني. رئيس تحرير جريدة «النداء» اليومية (1975 - 1985). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام راديو «صوت الشعب» (1986 - 1994). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام تلفزيون «الجديد» (1990 - 1994). مؤسس ومدير عام «دلتا برودكشن» لخدمات الأخبار والإنتاج المرئي (2006 - 2017). كاتب في «الشرق الأوسط».
TT

عندما تجرأ اللبنانيون على الحلم!

مميز هو يوم 11 فبراير (شباط)، ففي مثل هذا اليوم في عام 1990 خرج مانديلا من السجن ليصبح بعد 4 سنوات رئيساً لجنوب أفريقيا، وفي 11 فبراير 2011 أسقطت ثورة يناير (كانون الثاني) حكم الرئيس المصري حسني مبارك، وفي 11 فبراير 2020 انكشف المستور في لبنان، وتعمق الصراع وازداد الفرز الوطني، من جهة بين أغلبية شعبية اتحدت وطنياً وشملت تمثيلياً المناطق والمذاهب، ومن جهة ثانية، سقطت ورقة التوت فبرزت الوحدة بين الأطراف المذهبية الشركاء في بدعة نظام المحاصصة الذي يحمي الفساد والفاسدين.
انتفت كل الفوارق بين الأطراف السياسية الرئيسية التي تحكمت بمقدرات لبنان منذ 30 سنة، سواء منها المكونة لحكومة الأقنعة، وهم «حزب الله» و«التيار العوني» و«حركة أمل» من ناحية، أو من الناحية الأخرى الذين رفعوا شعار المعارضة من داخل المؤسسات وهم «الحزب الاشتراكي» و«حزب القوات» و«تيار المستقبل»، وآخر الأدلة على ذلك لحظة افتتح رئيس المجلس جلسة الثقة بالحكومة، وهي من أهم الجلسات، فجاءت بدون نصاب قانوني ولم يعترض أي مشارك على تهريب النصاب، ولاحقاً وفّرت هذه الفئات إمكانية تهريب الثقة الهزيلة من مجلسٍ غير شرعي لا رصيد في حسابه وعلى جثة الدستور! لتحصل الحكومة، الواجهة للقرار الفعلي، على ثقة 49 في المائة من النواب نالوا أقل من 24 في المائة من عدد المقترعين!
أن تنعقد الجلسة النيابية بدون نصاب مسألة سيكون لها ما بعدها، والحقيقة لم تتأخر التداعيات، فهناك من هرّب مخطط الثقة، وهناك من ظهر خداعه لناخبيه وخزلانه لمؤيديه وتحديه للإرادة الوطنية ممثلة بشرعية ثورة 17 تشرين. من الآخر، تطلب سيناريو تأمين الثقة اللادستورية انعقاد المجلس الأعلى للدفاع، الذي بحث في الخطط التي تم اللجوء إليها وقضت بقطع جادات العاصمة بالكتل الإسمنتية والأشرطة الشائكة، وإقفال المداخل الـ11 المؤدية إلى البرلمان، بعد تحويل وسط بيروت إلى ثكنة عسكرية ما اقتضى رش العسكر صفوفاً متراصة، فمارسوا قمعاً منفلتاً على المتظاهرين السلميين لتأمين وصول النواب... وسقط نحو 60 جريحاً نقلوا إلى المستشفيات وعولج أكثر من 350 في ساحات المواجهة.
لم يتأمن النصاب وما جرى كان خرقاً للدستور. تأخر موعد افتتاح الجلسة 40 دقيقة وكان الحضور قد تجمد عند رقم 58 نائباً، أكثرهم ممن تسلل ليلاً تحت جنح الظلام، والنصاب يتطلب حضور 65 نائباً. تم افتتاح الجلسة قبل وصول 4 من نواب الثنائي الشيعي تأخر انتقالهم من المطار، فأعلن الرئيس بري أن «الرئيس الحريري تواصل معي وأكد حضور نواب (المستقبل) كما سيحضر نواب (القوات)»، فيما أمن فعلياً النصاب 5 نواب من اللقاء الديمقراطي (أي الحزب الاشتراكي)، وذريعة النائب السابق وليد جنبلاط: «نحن نحترم الأصول الدستورية وربما اكتمل النصاب بحضورنا»، ليختلط حابل «الحزب الاشتراكي» بنابل حزبي «القوات» و«المستقبل»، حيث رمى كل طرف المسؤولية على الآخر بتأمين النصاب، فقال نائب «الاشتراكي» أبو فاعور: «ليس من مسؤوليتنا عد النواب»، فيما ذهب جنبلاط بعيداً في كشف التبعات باتهام البعض بـ«تصفية حساباته معنا من أجل أن تبقى هي بريئة من دم هذا الصديق»، مضيفاً أن القوى «التي تدعي معارضتها لهذه الحكومة تترك اللقاء الديمقراطي وحيداً بتهمة تأمين النصاب»!
نعم تأمين النصاب هو التهمة، والراسخ في العلم هو أن هذه الفئات «السيادية» حسب زعمها، لم تترك فرصة للمصالحة مع ناخبيها المقربين إلا وبددتها، لأن أولويتها الشراكة في صفقات المحاصصة والفساد، وبات أكثر ما يثير السخرية الحديث الممجوج عن المعارضة من داخل المؤسسات، فتظهر الامتناع عن إعطاء الثقة عملاً مخادعاً مفضوح الأهداف والرهانات، لأن مَن أمّن النصاب هو الأب الفعلي للثقة، وهو مشارك في إذلال كل اللبنانيين وفي المقدمة كل ناخبيه. وهكذا استحال عليهم التنصل مما ارتكبوه، ما فضح عقم معارضتهم لنهج ارتهان البلد وعزله، وهذه أبرز أولويات الحكومة كمولود مشوه لهذه الطبقة السياسية تبدأ بجدران من اللاثقة بينها وبين اللبنانيين. وبالخلاصة، أكدت هذه الأطراف عمق عدوانيتها لمسيرة التأسيس للبنان العدالة والشفافية والدستور الذي يتسع لكل اللبنانيين، على أنقاض مزرعة النهب التي تحاصصوها، فتجلت الشراكة بأجلى الصور، شراكة مع الجهات الأكثر تسلطاً التي تجاهر بالنوايا السافرة لقمع الثورة، ورهان من أن هذه الجهات التي يقودها «حزب الله» ستمنح هذه الأطراف السياسية المتهمة بالارتكابات بعض المواقع في الإدارة وبعض الحصص في الصفقات!
عندما تجرأ اللبنانيون يوم 17 أكتوبر (تشرين الأول) ونزلوا إلى الساحات قبضة واحدة تقودهم قيادات شبابية، قالوا لن نعود قبل وضع النهاية لنهج انتهاك كرامات الناس، وهو نهج مبرمج بين البعض في الحكم و«الكارتل المصرفي» الذي أذل اللبنانيين، وقالوا لن نعود قبل استعادة الجمهورية وقيمها وسيادة الدستور والعدالة بوقف الاستنسابية في تطبيق القوانين وأساساً إلغاء كل بدعة نظام المحاصصة الطائفي التي أُحلت مكان الدستور والقانون، وقالوا نعم بإمكاننا تحقيق الحلم بإنهاء المزرعة وإنهاء سلطة تحالف أمراء الطوائف والمال والمقاولين وقيام وطن يسوده الهواء النظيف الذي حملته الثورة، وهو الهواء الذي سيرسل المتهمين إلى العدالة بتهم مبررة ومعللة: إفقار البلد ونهبه وتجويع أبنائه وارتهانه للخارج! وأثبتوا على مدى 120 يوماً أنهم يملكون الإرادة والتصميم والأمل، وأن القوى الحزبية المذهبية لن تنال من عزمهم على إحداث التغيير.
ما جرى يوم الحادي عشر من فبراير هو محطة مشرقة في مسيرة الثورة، يُبنى عليها لأنها أثبتت أن لبنان الناس هو وطن الشبان الشجعان الذين تجرأوا على المطالبة به والدفاع عن مصالح وحقوق أبنائه. والحشود التي غطت وسط بيروت وتصدت بالصدور العارية للقمع المنظم، وجهت رسالة حاسمة من أن «ثورة تشرين» التي باتت ملك كل المواطنين وأملهم، ستعبر مع الأكثرية الكبرى من اللبنانيين فوق نظام المحاصصة الطائفي، والبداية فرض مرحلة انتقالية تقودها حكومة مستقلة موثوقة تمهد لانتخابات مبكرة تتيح إعادة تكوين السلطة.
مع تبلور هذا المنحى الحقيقي للإنقاذ دخلت المواجهة مرحلة جديدة، لأنه مع حكومة ضلال تمثل الإنكار لما تعنيه أزمة الانهيار الشامل، لا بد من تجديد قرع ناقوس الخطر، لأنهم مع حدة الانقسام لن يتورعوا عن المضي في كل السياسات والارتكابات بوهم القدرة على قطع الجسور أمام التجرؤ على القول إن الطريق الأقصر لاستعادة الكرامات والحقوق إنما تكون بالخلاص من كل نظام المحاصصة الطائفي وموبقاته.