حنا صالح
صحافي وكاتب لبناني. رئيس تحرير جريدة «النداء» اليومية (1975 - 1985). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام راديو «صوت الشعب» (1986 - 1994). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام تلفزيون «الجديد» (1990 - 1994). مؤسس ومدير عام «دلتا برودكشن» لخدمات الأخبار والإنتاج المرئي (2006 - 2017). كاتب في «الشرق الأوسط».
TT

«صفقة القرن» نهاية حل الدولتين!

تطرح «صفقة القرن» تحديات كبيرة على الشعب الفلسطيني، أين منها التحديات التي طرحها قرار التقسيم قبل أكثر من 72 سنة. إنها «وعد ترمب» على غرار «وعد بلفور» يُطرح في زمن تراجعت فيه عربياً ودولياً مكانة القضية الفلسطينية، سيما بعد استهداف المنطقة وما تسببت به من أهوال ضربت سوريا والعراق واليمن وليبيا والأخطار اللاحقة بكثير من بلداننا وخاصة لبنان. يفاقم من المخاطر أن الوضع الفلسطيني يمر في مرحلة حرجة من الترهل والضعف والتفكك، فجاء الطرح الأميركي أشبه بصفقة أميركية - إسرائيلية تحدت قرارات الشرعية الدولية، عندما تبنت الإدارة الأميركية كل مطالب «الليكود» في أرض فلسطين التاريخية. والأمر اللافت أنه لم يتم أي تداول أميركي بها مع الجانب الفلسطيني حتى بالعناوين العامة، فشكل مضمونها علامة سلبية كاملة حرمت الجانب الفلسطيني كل شيء، وضربت عرض الحائط بالرؤية العربية لتسوية مقبولة، والمعبَّر عنها في مبادرة بيروت للسلام لعام 2002.
جرى الإعلان عن الصفقة في زمن لافت، إنه الزمن الانتخابي. فإذا كانت الصفقة تمنح الرئيس ترمب المزيد من أوراق القوة في معركته، فإن هذا التوقيت هو أكثر ما يخدم المعركة المصيرية التي يخوضها بنيامين نتنياهو عشية الانتخابات الإسرائيلية المبكرة التي ستجري في مارس (آذار) القادم، وهو الملاحق بتهم الفساد، وبعض التهم تعتبر جنائية، ولا مخرج له إلا الفوز بالانتخابات والبقاء على رأس الحكومة الإسرائيلية وإلا الاستعداد لدخول السجن.
باختصار تقتطع الصفقة نحو 30 في المائة من مساحة الضفة الغربية، هي كل المستوطنات التي يقطنها مئات الألوف، ويكون الوصول إليها عبر طرق خاصة وجسور، وتحتفظ تل أبيب بكل الحدود مع الأردن، فيما تتخلى عن قرى المثلث التي يقطنها نحو 250 ألفاً من عرب إسرائيل لخفض العديد الفلسطيني في الكيان المحتل، وإجراء «ترانسفير» خطير قد يكون البداية في خططٍ ستكون لها نتائج مقلقة، ويتم إخراج السلطة الفلسطينية نهائياً من القدس إلى ضاحية أبو ديس المقترحة عاصمة بديلة (...)، وتُمنح «الدولة» الفلسطينية منطقتين صحراويتين معزولتين في النقب على الحدود مع مصر تتكدس فيهما اليد العاملة الفلسطينية الرخيصة، ويتم إنشاء نفق يربط الضفة بالقطاع، تحت حراسة الجيش الإسرائيلي، على أن تتراوح مساحة الأرض الفلسطينية نحو 6 آلاف كلم مربع من أصل أكثر من 27 ألف كلم مربع هي مساحة فلسطين التاريخية... ويشطب نهائياً حق العودة!
باختصار إن ما تعرضه الصفقة لا يعدو أكثر من حكم ذاتي محدود، لأن السيادة الأمنية بما في ذلك على الحدود ستبقى بيد إسرائيل، التي ستحتفظ بحق التدخل العسكري متى هي رأت ما يوجب ذلك!!
هذه الصفقة التي قيل معها للفلسطينيين إنها العرض الأخير، تبدو أشبه بزواج بالإكراه سيكون من الصعب تصور تنفيذه نتيجة الرفض الشامل له، لأنه مشروع حرمان الفلسطينيين من آخر حقوقهم، فيما أن الصعوبة تكمن في أن التمسك برفض التفاوض لو أتيح، والتمترس خلف هذا العنوان لا يمنح الفلسطينيين أوراق قوة إضافية، كما من غير المفيد أن يكون الرد بالبيانات والشجب وحرق الأعلام على جاري العادة، وبالتأكيد ليس بانتظار «فيلق القدس» وحكايات قادة الحرس الثوري الإيراني عن محو دولة العدو عن خارطة المنطقة خلال 7 دقائق ونصف!
يملك الفلسطينيون البدائل التي ينبغي لها أن تجمع أوراق القوة، التي يوفرها وجود نحو 7 ملايين فلسطيني فوق أرض فلسطين التاريخية، يتم استهدافهم بشكلٍ متتالٍ... فمع قانون يهودية الدولة، وما يسود في غير منطقة من العالم من دفع لنوع من النقاء العرقي، سيتسع استهداف عرب إسرائيل، والبداية كما في الصفقة، من البلدات العربية في المثلث. كل ذلك يحتم تعاطياً مختلفاً لأنه من الضرورة بمكان استعادة حقيقية لمنظمة التحرير بما يمكن أن تمثل، والسؤال الذي يطرح نفسه بضوء كل التجربة بعد أوسلو، هل حدث أي تقدم على طريق تكريس مبدأ حل الدولتين، أو أن المسألة باتت طي النسيان لأن الصهاينة، والممارسة هي المعيار، لم يقبلوا في أي يوم أي مشروع يتيح للفلسطينيين الحد الأدنى من حق تقرير المصير.
من البداية كان هدف المشروع الاستيطاني الصهيوني تحويل الفلسطينيين إلى شعب بلا أرض، بعدما أسقط صمودهم الأسطوري على أرضهم مشروع غولدا مائير من أن «الفلسطيني الجيد هو الفلسطيني الميت»، ومن رابع المستحيلات أن تكون القيادة الفلسطينية غير مدركة أن الصهاينة أساساً كانوا يشترون الوقت، وأبو مازن بالذات هو الشخصية الفلسطينية الأخبر لأنه قاد مفاوضات أوسلو التي أفضت إلى تلك الاتفاقات، يعرف بالتجربة حقيقة الممارسات الإسرائيلية، فالعدو لم يقبل يوماً أي اتفاق ولم يساهم بأي أمر يفتح الطريق أمام حل الدولتين. أكثر من ذلك فإن أي وقفة متأنية أمام «اتفاق أوسلو» ومسلسل مناورات التفاوض بشأن تطبيقه، والتمادي من المستوطنين في خرقه لتكريس وقائع على الأرض، وكل ممارسات الاقتلاع والترحيل... ألم تقدم الأدلة على حجم الأطماع؟ فعلى ماذا كانت رهانات القيادة الفلسطينية وهي ترى تمادي قضم الأراضي وتغييراً ممنهجاً للجغرافيا وحشر الفلسطينيين في أماكن بدأت تضيق على إعدادهم؟
اليوم إذا كان من إيجابية لـ«وعد ترمب» فهو أنه وضع الفلسطينيين أمام الحقيقة. حقيقة نهاية مرحلة اتفاق أوسلو وكل ما نجم عنه، وأنه بضوء الصفقة، وقبلها واقع الحال، فإن كل فلسطين التاريخية هي تحت الاحتلال. هنا لا ميزة أبداً للقطاع، فغزة التي كان يحلم رابين بأن تغرق في البحر، باتت أشبه بـ«غيتو» مخنوق من الخارج وتحت هيمنة القمع الممارس من جهات مرتهنة للخارج، ومن لحظة الانقلاب في عام 2007 الذي تم بتشجيع من ملالي طهران تشظت السلطة، وكل الاتفاقات المرحلية إن في الضفة أو القطاع، كانت التزاماً كاملاً بالإملاءات الصهيونية!
نهاية أوسلو حقيقة واقعة، ولا بدائل أمام الفلسطينيين إلا إعادة بناء نصاب فلسطيني لمواجهة «الأبارتيد» الأخطر، كضمانة لبدء ردٍ شعبي على التحدي لأن لا مؤشرات على تسوية جدية، وإلا فإنه ما من شيء يوقف التراجع والانهيار.