فؤاد مطر
أحد كتّاب الرأي والتحليل السياسي في «الشرق الأوسط» ومجلة «المجلة» منذ العام 1990 وقبلها عمل صحافياً وكاتباً في «النهار» اللبنانية و«الأهرام». نشر مجلة «التضامن» في لندن وله 34 مؤلفاً حول مصر والسودان والعراق والسعودية من بينها عملان موسوعيان توثيقيان هما «لبنان اللعبة واللاعبون والمتلاعبون» و«موسوعة حرب الخليج». وثَّق سيرته الذاتية في كتاب «هذا نصيبي من الدنيا». وكتب السيرة الذاتية للرئيس صدَّام حسين والدكتور جورج حبش.
TT

الأباطرة يبعثرون

من المفارقات اللافتة هذا التوجه الذي يرتبط بثلاثة من الحكام في العالم خص الله دولهم إيران وتركيا وروسيا بالثروات الطبيعية من أجْل توظيفها للخير ولإدخال السرور والطمأنينة إلى نفوس الشعب في كل هذه الدول، وللعلاقة الطيِّبة الخالية من الطمع وإلحاق الأذى بالآخرين وبالذات الجار القريب والصديق البعيد والحليف الأبعد. ولو أنهم انتهجوا الصراط المستقيم لما كان هذا التردي الحاصل في الوضع الاقتصادي في كل من الدول الثلاث.
التوجه الذي نشير إليه يتلخص في سعي كل منهم إلى تنشيط النسل في الدولة المحكومة منه. ويتزامن مع هذا التوجه ما يتناقض مع واقع الحال. فالحالة الاقتصادية في كل من إيران وتركيا وروسيا ليست مشجعة بل إن ما يُنشر من دراسات ويذاع من أرقام حول الوضع الاقتصادي يؤكد ما يقوله الخبراء في هذا الشأن، وما يحللونه من ميزانيات.
مثل هكذا أوضاع لا تشجع على تنشيط الإنجاب، ذلك أنه إذا كان عدد السكان حالياً في إيران نحو ثلاثة وثمانين مليون نسمة وفي تركيا أقل بنسبة بسيطة من هذا الرقم وفي روسيا يقترب من مائة وخمسين مليوناً، ومع ذلك فإن الأحوال الاقتصادية ليست مطمْئنة بما فيه الكفاية، فكيف إذاً ستكون عليه الحال إذا تم الأخذ بدعوة كل من القادة الثلاثة الناس إلى الإكثار من الإنجاب. ربما هناك موجبات طي الكتمان لم يكشف عنها القادة الثلاثة: خامنئي، وإردوغان، وبوتين، لكن ما يفعلونه من تدخلات في دول الآخرين وبذرائع لا تستند إلى موضوعية، وكذلك ما يدْلون به من تصريحات، فضلاً عما في خاطر كل منهم من رؤى تستند إلى تعظيم الذات، تجعل المتابعين لهذا السلوك العملي واللفظي مثل حالنا كصحافيين ومحللين للأحداث يقرأون ما بين السطور.
بدايةً نضيء على ما قاله أولهم المرشد علي خامنئي الذي فاجأ الشعب الإيراني المتطلع إلى القليل من البهجة وانحسار كثير من قسوة الحرمان في حياة أفضل، وبأن يتساوى الإنفاق على التنمية وتطوير الأحوال بما يحقق رغد العيش مع الإنفاق الهائل على السلاح وتصدير الثورة وتمويل الميليشيات في أكثر من بلد عربي، ببيان من أربع عشرة مادة أصدره يوم الأربعاء 14 مايو (أيار) 2014 واتسم بصيغة الأوامر إلى السلطات التشريعية - التنفيذية. أبرز هذه الأوامر صيغت كالآتي: «1- إن هدفنا هو بلوغ رقم 150 مليون نسمة كحد أدنى. 2- يجب توفير خدمات تأمين لتغطية تكاليف الإنجاب وعلاج العقم لدى الرجال والنساء. 3- تقديم تسهيلات للحوامل وتوفير خدمات التأمين لتغطية تكاليف الإنجاب. 4- حث الإيرانيين المقيمين خارج البلد على العودة والقيام باستثمارات في إيران، أي الإنجاب على أرض إيران».
لم يوضح المرشد بما فيه الكفاية الغرض البعيد المدى من هذا الاهتمام بموضوع النسل، وأوجب بث بيان على الملأ في شأنه وليس الاكتفاء بتوجيهات من جانب الإدارات المختصة بالشؤون المجتمعية. وربما لم يوضح خشية عدم تجاوب الأزواج مع الإكثار من النسل وعدم حماسة الشبان والشابات لتأسيس عائلة وإنجاب أطفال، والتعويض عن ذلك بزواج المتعة.
وأما الغرض البعيد المدى الذي لم يوضحه المرشد مكتفياً بالإشارة إلى «أهمية الزيادة السكانية في تحقيق الاقتدار الوطني والحيلولة دون انخفاض نسبة الشباب في البلاد»، فإنه إذا جاز لنا الافتراض، يتصل بمرحلة ما بعد تحقيق الإنجاز النووي، بمعنى أن ذلك قد يعرِّض إيران لحرب عليها أو أن امتلاكها النووي سيجعلها تخاطر بحروب توسعية تلبّي روحية المشروع الثوري. وفي الاحتماليْن هنالك ألوف من الناس سواء كانوا من العاملين في الحياة العامة أو أفراداً متنوعي الرتب في المؤسسات العسكرية والأمنية سيموتون، كما سيصاب مئات الألوف من الناس بإعاقات/ وليس ممحياً من الذاكرة ما أصاب عشرات الألوف من اليابانيين جرّاء الثأر النووي الأميركي لمغامرة جوية يابانية على قاعدة عسكرية أميركية. وفي حال حدوث الاحتمال الأسوأ الذي نشير إليه، فإن ما يعوّض ذلك هو خزان المواليد، وهذا لن يتم إذا كان النظام ومن قبله الجالس في القمة وبصفتيْه الحاكم ورجل الدين في الوقت نفسه لم يستبق ما هو محتمل الحدوث بتأمين الفائض البشري، وهذا يكون بما حواه بيان المرشد خامنئي. وفي هذا الصدد تجدر الإشارة إلى أن تعويض إيران الخامنئية عن ضحايا إيران الخمينية خلال الحرب مع العراق لم يكتمل بما فيه الكفاية، ومِن هنا كان التركيز على أن تكون «جيوش الثورة الإيرانية» في العراق ولبنان واليمن وغزة بمثابة «جيوش بالتبنّي» للمشروع الإيراني وإلى حين اكتمال العدد المأمول من السكان كما يحدده المرشد خامنئي وهو «150 مليوناً كحد أدنى».
إلى هذا الافتراض هنالك ثغرة قلة العدد سكانياً التي بدأ يشعر بها النظام، وهو يسعى حثيثاً نحو صفته النووية. وفي هذا الشأن لا بد أنه يرى أن الدولة الإسلامية النووية الوحيدة، باكستان، قوية أيضاً بالمائتي مليون عدد سكانها وأنه إذا ما انتهى المشروع النووي الإيراني إلى إنجاز فإن الكثافة السكانية للدولة الإسلامية الثانية ضرورة وطنية وبذلك لا تعود «السُّنية النووية» متميزة بنسبة هائلة سكانياً عن «الشيعية النووية».
خلاصة القول: إن المرشد خامنئي يفكر ويتدخل في شؤون القريبين والبعيدين ويخطط إمبراطورياً وعلى نحو ما يفعله مثيل له هو الرئيس رجب طيب إردوغان، تتقدم نزعتهما الإمبراطورية على واجبات الاهتمام باحتياجات الناس طعاماً وشراباً ونفطاً وحرية وراحة بال. كما يشاركهما هذه النزعة فلاديمير بوتين الممتلئ نووياً المنشغل البال لتأمين فائض سكاني ربما من أجْل استيطان روسي خارج الحدود وعلى نحو ما هو حاصل في سوريا.
وللحديث عن النزعة الأتاتوركية ومثيلتها القيصرية وهاجس تشجيع التناسل كما الحال في إيران بقية إطلالة على هذه الظاهرة التي يمكن تلخيصها بالقول: إن الله أعطى لكن أباطرة الزمن الحالي يبعثرون... ولا يشكرون نعمة الله على الأوطان والشعوب.