جمعة بوكليب
كاتب ليبي؛ صحافي وقاص وروائي ومترجم. نشر مقالاته وقصصه القصيرة في الصحف الليبية والعربية منذ منتصف السبعينات. صدرت له مؤلفات عدة؛ في القصة القصيرة والمقالة، ورواية واحدة. عمل مستشاراً إعلامياً بالسفارة الليبية في لندن.
TT

جورج أورويل وذكراه

الذكرى السبعون لوفاة الكاتب جورج أورويل عَبَرَتْ من دون إثارة، أو ضجيج، خلال الأسبوع الماضي، في موطنه بريطانيا، ما يشعرك كأن أورويل مجرد كاتب هامشي، أو شخص عادي، ولا حاجة تدعو الناس إلى إزعاج أنفسهم بتذكره.
وعلمت، مؤخراً، أن زواره في المستشفى كان الشاعر البريطاني بول بوتس، وأحضر له علبة شاي. ولدى دخوله غرفته بأحد مستشفيات لندن وجده نائماً، فترك له العلبة وخرج. أورويل كان يفكر في أخذ علبة الشاي معه حين يسافر إلى سويسرا للتعافي لدى خروجه من المستشفى، لكنه أسلم الروح يوم 21 يناير (كانون الثاني) 1950 إثر انفجار شريان في رئتيه.
الذكرى السبعون لوفاة الكاتب أورويل تعني، في الوقت نفسه، انتهاء صلاحية حقوق النشر على مؤلفاته، الأمر الذي يفتح الباب أمام إعادة نشر كتبه من دون الحاجة إلى دفع أي رسوم مالية، أو الحصول على أذونات من ورثته بالنشر. ونتوقع صدور عشرات الطبعات الجديدة لمؤلفاته.
تعرفت على جورج أورويل، لأول مرة، لدى بداية دراستي الجامعية بقسم اللغة الإنجليزية بكلية التربية، جامعة طرابلس، في العام الأكاديمي 1973 - 1974. اختار أستاذ مادة الأدب الإنجليزي د. باكنغهام تدريسنا، في السنة الأولى، رواية أورويل المشهورة «مزرعة الحيوانات». وكانت ليبيا، وقتذاك، قد شهدت أول التحولات السياسية الذي قاد بعد وقت قصير، إلى تحويلها إلى مزرعة لا تختلف كثيراً عن «مزرعة الحيوانات» التي بدأنا في دراستها، تعيش واقعاً كابوسياً تحت قيادة وسيطرة ورقابة الأخ الأكبر وأجهزته الأمنية كما صوره أورويل في رواية «1984».
لم يكن الحرم الجامعي، يومذاك، تحت سيطرة القذافي بعد. وكان يموج بالنشاط السياسي، لكنه كغيره من القطاعات الأخرى، لم يسلم من تأثيرات وتداعيات الهزة السياسية التي أحدثها القذافي في شهر أبريل (نيسان) 1973 في خطابه سيئ الصيت بمدينة زوارة، الذي عرف باسم خطاب النقاط الخمس، معلناً فيه بدء الثورة الثقافية، على غرار ما فعله ماو تسي تونغ في الصين، وقيام الأجهزة الأمنية، بعد الانتهاء من الخطاب مباشرة، بحركة اعتقالات واسعة شملت مئات الحزبيين والمثقفين من كل التوجهات، ومن كل أنحاء ليبيا، ووضعهم في السجون، وإلغاء القوانين، ومنع ومصادرة الكتب. وكان من ضمن المعتقلين كثير من الطلاب الجامعيين النشطاء سياسياً، من اليمين واليسار.
في عام 1974 وضمن المناشط الثقافية بالجامعة، نظمت إحدى الجمعيات الثقافية، بكلية التربية، ندوة عن تاريخ الصحافة في ليبيا، وكان الضيوف المتحدثون من الشخصيات المعروفة في عالم الصحافة الليبية. كان، على ما أذكر، من ضمنهم الراحلة الصحافية المعروفة خديجة الجهمي. وأذكر أن الخبر عن الندوة، وصل بطريقة ما إلى معسكر باب العزيزية، مقر العقيد القذافي، عن طريق بعض أنصاره من الطلاب في شعبة الاتحاد الاشتراكي بالجامعة، ولم يمضِ سوى وقت قليل على وصول الخبر، حتى بدأت هواتف عميد الكلية والمسجل والمسؤولين ترن من دون توقف، مستفسرة عن الندوة، وأعضاء الجمعية وتوجهاتهم. بعد أكثر من تأخير ساعتين، عقدت الندوة، وكانت القاعة مليئة بالطلبة والأساتذة. لكن الضيوف المتحدثين حوّلوا الندوة إلى ما يشبه الدردشة الاجتماعية، ولملموا الموضوع في أقل من ساعة.
تلك كانت أولى الإشارات إلى قادة انقلاب سبتمبر (أيلول) بأن الاعتقالات التي طالت القادة الطلابيين في الجامعة، في العام الماضي، لم تقضِ تماماً على مقاومة القطاع الطلابي ضد تحول البلاد إلى مجتمع أورويولي. الإشارة الثانية جاءت بعدها بوقت قصير، لدى إجراء انتخابات لاختيار أعضاء اتحاد طلبة الجامعة في كل الكليات، وتمكن الطلبة المستقلون من هزيمة أنصار النظام وسيطروا على الاتحاد، وزاد ذلك من وتائر التصعيد، إلى أن انفجر الموقف وخرج عن السيطرة يوم 7 أبريل 1976 بقيام النظام باقتحام الجامعة، والسيطرة على مرافقها، بعد معركة رهيبة مع الطلبة، وإحلال أنصاره في كل مرافقها، بما في ذلك اتحاد الطلبة، وإيداع الكثير من الطلبة في السجون، وكنت من ضمنهم حيث قضيت شهراً في الاعتقال. بعدها أفرج عنا، وحرمنا من العودة إلى الدراسة، ومنعنا من السفر إلى الخارج. كان مطلب القوى الطلابية آنذاك استقلالية الحرم الجامعي، ورفض تدخل السلطة فيما يقرر ويدرس في أروقة الجامعات وقاعاتها.
ما دعاني للحديث عن تلك الفترة، هو أننا كنّا طلاباً جامعيين، موجودين بين جدران قاعات دراسية، ندرس رواية جورج أورويل بمناخاتها المرعبة، وأجوائها الكابوسية الساخرة، بينما خارج تلك القاعات كانت البلاد تتحول تدريجياً، وفعلياً، ضمن سياق سياسي ديكتاتوري، إلى مجتمع أورويولي، يعيش سكانه في رعب دائم من الأخ الأكبر، ومن أجهزته السرية القمعية، ولجانه الثورية الفاشية، وصرنا نرى بأم أعيننا محاكمات تقام في الساحات والميادين العامة، وتنقل حيّة على شاشات التلفزيون الرسمي لمحاكمة من أطلق عليهم النظام وصف الخونة. الغريب، أن المشانق في «مجتمع الفردوس الأرضي» قبل اختفائه، كانت تنصب وتعدّ أولاً، ثم بعدها يؤتي بقضاة واتهامات، وتجري محاكمة سريعة، وفي نهايتها توضع الأنشوطة حول أعناق الشباب، ويشنقون أمام أنظار مئات من الناس علناً، وفي وضح النهار.