وائل مهدي
صحافي سعودي متخصص في النفط وأسواق الطاقة، عمل في صحف سعودية وخليجية. انتقل للعمل مراسلاً لوكالة "بلومبرغ"، حيث عمل على تغطية اجتماعات "أوبك" وأسواق الطاقة. وهو مؤلف مشارك لكتاب "أوبك في عالم النفط الصخري: إلى أين؟".
TT

دروس وأحداث نفطية من العقد الماضي

ها نحن دخلنا في عقد جديد من الزمن سيكون مليئاً بالتحديات، كما كان العقد الذي سبقه. أقول هذا لأننا سنبدأ هذا العقد بتحديات وتهديدات واضحة لمستقبل صناعة النفط، قد يكون بعضها مبالغاً فيه وقد يكون بعضها واقعياً.
ولكن قبل الحديث عن الدروس المستفادة من العقد السابق، علينا أن نتذكر مع بعضنا الأحداث النفطية المهمة التي شهدتها السنوات بين 2010 و2019.
لقد بدأنا عام 2010 باقتصاد عالمي يحاول الخروج من الركود بعد الأزمة المالية العالمية، واضطرابات سياسية ضربت الوطن العربي، وأدت إلى وصول أسعار النفط إلى مستويات فوق 100 دولار في السنوات بين 2011 و2014. في تلك الفترة، كانت منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك) تعيش ربيعاً آخر غير الربيع العربي، إذ وصلت أسعار النفط إلى مستويات لم يكن أحد يحلم بها. صحيح أن أسعار النفط تجاوزت المائة قبل 2011 بثلاثة أعوام، وتحديداً في عام 2008، إلا أن ذلك الارتفاع لم يكن مستداماً، وكانت المضاربات المالية هي السبب وراءه.
وفي عام 2010، وتحديداً في نهايته، استضافت العاصمة السعودية الرياض الاحتفال بمناسبة مرور 50 عاماً على تأسيس «أوبك». وأذكر حينها كلمة وزير البترول السعودي الأسبق علي النعيمي، عندما قال إن «أوبك» اليوم منظمة ناضجة تعلمت واستفادت كثيراً من دروس الماضي.
لقد مشت «أوبك» مشواراً طويلاً، ووصلت إلى مرحلة لا بأس بها من النضج، ولكن هذا النضج لم يكن كافياً للتخطيط لمستقبل أفضل. هذا الأمر كان جلياً عندما تركت «أوبك» أسعار النفط تتجاوز مائة دولار لسنوات طويلة، والنتيجة هو السماح للتقنيات المضادة لـ«أوبك» في الظهور، مثل تقنية التكسير الهيدروليكي الذي أصبح مجدياً اقتصادياً بفضل «أوبك»، وفتح المجال لمئات الحفارات لأن تنتج من أحواض النفط الصخري في تكساس وأوكلاهوما وغيرهما. ومع الأسعار العالية، أصبح الحفر العميق في البحار، أو حتى التنقيب في القطب الشمالي، أمراً ليس بالمستحيل.
وهنا نقف مع أول درس، وهو أن «أوبك» لم تتعلم من أخطاء الثمانينات، عندما كان التركيز على أسعار عالية، ولم يلاحظ أحد خطورة ذلك على تطور البدائل، وكأن المستهلكين سيقفون مكتوفي الأيدي.
الكل يبحث عن سعر عادل للنفط، ولكن النفط سلعة ليس لها سعر عادل، للاختلاف الشاسع بين طبيعة الدول المنتجة والمستهلكة له. وبدا واضحاً أن «أوبك» لا تزال تركز على الميزانيات العامة على المدى القريب، وليس على استمرارية السلعة على المدى البعيد. وخلال الفترة 2011 إلى 2014، لم يتحول كل هذا الدخل الكبير إلى استثمارات لتنويع مصادر الدخل، بل زاد الإنفاق العام الحكومي في دول «أوبك» بشكل كبير، من دون عائد مستقبلي من هذه الأموال.
لقد نضجت «أوبك» كمنظمة، ولم تنضج كمجموعة دول منتجة، إذ لم يغير ارتفاع أسعار النفط شيئاً من تعاملها مع المستقبل. وقد يشفع لبعض دول «أوبك» بناء احتياطيات نقدية عالية خلال تلك الفترة، ولهذا عندما بدأت أسعار النفط في الهبوط، بدءاً من أواخر 2014، لجأت بعض الدول إلى الاحتياطي للصمود أمام تآكل المداخيل.
ولا أعلم حقيقة مدى النضج الذي وصلت له «أوبك»، حيث كان هناك كثير من الأصوات التي نادت وحذرت في عام 2012 من خطورة تزايد إنتاج النفط الصخري، ولكن هذا لم تقابله «أوبك» سوى بالاستهزاء من قدرات المنتجين، والتشكيك في تمكنهم من الصمود سنوات أطول. وفي حقيقة الأمر، دخلنا العام الثامن، ولا يزال إنتاج النفط الصخري موجود، حتى مع توقعات وصوله إلى الذروة.
لقد فاجأ النفط الصخري الجميع، والفضل في ذلك يعود إلى الهندسة المالية التي لعبتها الشركات المنتجة له، حيث خفضت التكاليف، واستدانت أموال كثيرة من وول ستريت، وشجعها في ذلك الدعم الحكومي لجعل أميركا بلداً منتجاً ومصدراً للنفط.
وهذا ما تحقق بالأخير، حيث بعد عقود طويلة، وصل النفط الأميركي إلى الموانئ خارج البلاد، وتحولت محطات استقبال الغاز المسال إلى محطات تصدير.
ومن الملاحظ أن العقد الماضي كان عقداً نفطياً، رغم ظهور السيارات الكهربائية وانتشارها تدريجياً. وبالنسبة لي، لا أعلم حقيقة ما إذا كانت السيارات الكهربائية تهديد كبير لمستقبل النفط أم لا، إذ إن التهافت الكبير من قبل الجميع على إنتاجها يعيد إلى الأذهان فقاعة تقنية المعلومات في 1999 و2000، عندما تزايدت أعداد شركات تقنية المعلومات، وارتفعت أسعارها في البورصات.
وعندما يبدأ الجميع بالتقليد، وعمل الشيء نفسه، فهناك مشكلة آتية، وانهيار بعد تشبع السوق بالشركات المنتجة. وهذا ترند (توجه) عالمي قديم نراه واضحاً في كل أنشطة العالم الاقتصادية. لم يتغير الوضع في 2014 عنه في 1890، عندما كانت ولاية بنسلفانيا تشهد هجرة سكان لها من كل أميركا، يبحثون كلهم عن فرصة ثراء من خلال إنتاج النفط، وعندما تشبع السوق وانهار الإنتاج خرج كثير من هؤلاء.
إن المصارف العالمية في كل زمان تمارس الدور نفسه؛ تعطيك المظلة في الأيام ذات الجو الصحو، وتأخذها منك في الأيام الممطرة. هذا ما حدث مع النفط الصخري، وسيحدث مع شركات السيارات الكهربائية، ومع أي مشروع بشري.
ما نريد لدول «أوبك» أن تفهمه، ولعلها تفهمه جيداً، هو أن المستقبل ليس للنفط، حتى وإن ظل النفط الوقود الأكثر أهمية ومبيعاً، لأن التطور البشري لن يقف على سلعة واحدة لقرنين من الزمن. وما على الجميع تنفسه يومياً كالهواء هو التفكير في بناء أنظمة واقتصاديات جديدة قادرة على المقاومة والازدهار.