إميل أمين
كاتب مصري
TT

هل تنسحب أميركا من العراق؟

مع القرار الذي اتخذه البرلمان العراقي مساء الأحد، بإنهاء العمل بالاتفاقية الأمنية مع التحالف الدولي ضد «داعش»، والذي طالب الحكومة بوضع حد لوجود القوات الأجنبية في البلاد، وعدم استعمال الأراضي العراقية أو المجال الجوي لأي سبب كان، هل يمكن القطع بأن هذا المشهد يعني بالضرورة الحتمية انسحاب القوات الأميركية من العراق، مرة وإلى الأبد؟
المؤكد أن قرار البرلمان العراقي المقصود والمعني به القوات الأميركية بنوع خاص وواضح جداً، جاء كنتيجة طبيعية لمقتل قاسم سليماني، قائد «فيلق القدس» قبل عدة أيام على الأراضي العراقية، الأمر الذي اعتبره البعض انتقاصاً من الحكومة القائمة، حتى وإن كانت حكومة تصريف أعمال، لا تمتلك من أمرها شيئاً، فسيادتها الحقيقية وقرارها الأعلى يأتيها من طهران.
جلسة البرلمان العراقي التي شهدت اتخاذ القرار جاءت مليئة بالفوضى، وخلت من وجود نواب الكتلتين السنية والكردية، ما يعكس جوهر القرار والهدف الرئيسي منه، وهو ما لا يغيب عن أعين أي محلل محقق ومدقق، ولكي تخلو عملية صناعة القرار للكتل والتجمعات التابعة آيديولوجياً والخاضعة دوغمائياً لإيران، ما يعني أن العراق القديم قد انتهى أمره، وفكرة الدولة العراقية القومية المستقلة قد انتهت دفعة واحدة.
وقع العراق فريسة لإيران؛ حيث اتخذ الرئيس الأميركي باراك أوباما قراره في 2011 بالانسحاب من هناك، ولا يزال النقاش دائراً حول النية الحقيقية التي كانت وراء القرار الأميركي، لا سيما أن صاحبه هو عينه الرجل الذي توصل إلى الاتفاق سيئ السمعة النووي مع طهران، وكأنه بذلك كان يقدم على تقديم هدية أولية لإيران، تتمثل في إطلاق يدها في الداخل العراقي، ولاحقاً تتويجها على المنطقة برمتها، قبل أن يصل الرئيس ترمب إلى سدة الحكم، ويسعى لتغيير الأوضاع وتبديل الطباع المغلوطة.
هل جاء القرار العراقي خلواً من ضغوط أنصار إيران في الداخل العراقي؟
بالقطع لا، فالقاصي والداني يتذكر تهديدات «حزب الله» في طبعته العراقية، لرئيس البرلمان العراقي محمد الحلبوسي، في إطار الضغوط التي تمارسها أعداد وافرة من ميليشيات «الحشد الشعبي» على المؤسسات الرسمية في العراق.
في هذا الصدد، يرصد المرء ما قاله القيادي في كتائب «حزب الله» العراقي، أبو علي العسكري، في تغريدة له على «تويتر»: «سلامنا للسيد الحلبوسي، غداً، وبعده عيوننا تراقب بدقة ما ستؤول إليه قراراتكم بخصوص وجود القوات الأميركية».
لا يحتاج المشهد لأدلة تؤكد أن العراق رهينة، وأن قراراته المختلفة تأتي تحت الضغوط، وربما هناك من التهديدات التحتية والماورائية ما لا يقال في العلن، وما يجعل صانع القرار الأميركي تحت ضغوط، لا سيما إذا سالت دماء أميركية جديدة على الأراضي العراقية. كما يهدد المسؤولون الإيرانيون بدءاً من وزير الدفاع، وصولاً إلى القائد الجديد لـ«فيلق القدس» الذي يتوعد بأن تملأ جثث الأميركيين الشرق الأوسط.
لكن ماذا عن الجانب الأميركي ووجهة النظر فيما يخص الوجود العسكري على الأراضي العراقية؟
يحاجج مايكل نايتس، المتخصص في الشؤون العسكرية والأمنية للعراق وإيران ودول الخليج، في «معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى»، بأن الوجود العسكري الأميركي هناك وسيلة وليس غاية في حد ذاته، وعليه فإنه لا يجوز أن يوجد أي شخص يقدم خدمة ما أو مقاول أو دبلوماسي أميركي في العراق، بعيداً عن عائلته، وعلى حساب نفقة باهظة لدافعي الضرائب، إذا كان يمنع من أداء وظيفته، وإذا لم يكن محمياً من قبل الحكومة العراقية، فهذه ليست سياسة تخدم مصالح الولايات المتحدة؛ بل إنها مذلة.
كانت وجهة النظر الأميركية تعوّل على أن الجهات القومية الفاعلة الرشيدة داخل قيادة العراق، تفوق العملاء الموالين لإيران، ومن هذا المنطلق جاءت فكرة البقاء وبهدف واحد وحيد، وهو تعظيم فرصة نشوء وارتقاء عراق يتمتع بالسيادة والاستقرار والديمقراطية.
لكن ماذا الآن، والذين يسعون إلى أن يكون العراق رقماً هامشياً، ودولة تابعة لإيران قلباً وقالباً، يتطلعون لعراق ضعيف غير ديمقراطي تهيمن عليه إيران، ولا هم لهم في الصحو أو المنام سوى إزاحة الولايات المتحدة بعيداً عن الداخل العراقي من جهة، أو تحييدها إن بقيت؛ بحيث يضحى وجودها غير فاعل ولا مؤثر في عملية صوغ القرار العراقي؟
الذين لهم دالة على فهم عقلية الرئيس ترمب، أول ما يدركون هو أنهم أمام رئيس غير متوقع، ويكاد غير المتوقع من قبل الجميع يأتي به ترمب، وعلى الرغم من أنه قد وصف في أوقات سابقة القوات الأميركية في سوريا بأنها قوات تواجه الرمال والدماء والموت، وأنه لا شيء هناك يغري على البقاء؛ فإنه لم يسحب قواته بالمرة؛ بل لا تزال القوات الأميركية تناور وتداور في سوريا، رافضة أن تفرغ مواقع نفوذ جديدة لفلاديمير بوتين أو إردوغان.
ماذا يمكن أن يكون من حظوظ العراق في المقابل؟
يدرك الرئيس ترمب أن الانسحاب من العراق يعني أول الأمر وآخره شيئين؛الأول هو تسليم العراق على طبق من ذهب للملالي، وهذا ما لا يمكن أن يقبل به التوجه الاستراتيجي الأميركي جهة إيران، التي لا تزال تبحث عن مخرج لأزمتها النووية الرئيسية مع واشنطن بالمواجهة والتحدي.
والثاني هو فتح الباب واسعاً أمام الإرهاب والإرهابيين، «دواعش»، و«قاعدة»، و«جبهة نصرة»، وطبعات جديدة من هذه وتلك، لجعل العراق الحاضنة الرئيسية مرة أخرى لقيام وارتقاء موجة من الطاعون الأسود، لا يعلم أحد كيفية مواجهتها.
سوف تحسم أميركا الأمر بالمنطق نفسه لقتلها سليماني؛ حيث كانت مخاطر الاغتيال أقل من مخاطر بقائه، ما يعني أن واشنطن ربما تتحمل بعض الخسائر في العراق في الأجل القصير، من أجل تجنب ما هو أسوأ على المدى الطويل.
القصة في بدايتها، وكرة الثلج حُكماً في طريقها إلى سفح الجبل، والليالي حبلى بالمفاجآت.