د. عبد الله الردادي
يحمل الردادي شهادة الدكتوراه في الإدارة المالية من بريطانيا، كاتب أسبوعي في الصفحة الاقتصادية في صحيفة الشرق الأوسط منذ عام ٢٠١٧، عمل في القطاعين الحكومي والخاص، وحضر ضيفا في عدد من الندوات الثقافية والمقابلات التلفزيونية
TT

عقد من التقنية

قبل 10 سنوات، وفي 27 يناير (كانون الثاني) 2010، وقف الراحل ستيف جوبز، مؤسس شركة «أبل»، أمام الجمهور، ليعلن عن إصدار جهاز لم يكن مألوفاً لدى العالم حينها، وهو «آيباد»، لم يفهم الكثير ماهية هذا الجهاز، الذي يقع في منطقة بين الهاتف والحاسب، ويعتمد اعتماداً تاماً على شاشة اللمس، وتحدثت الكثير من المراجعات التقنية عن جدوى هذا الجهاز، الذي لا يمكن استخدامه للاتصالات الهاتفية، وليست له لوحة مفاتيح، ليمكن استخدامه في كتابة النصوص مثل الحواسيب. واليوم وبعد 10 سنوات، يكاد لا يخلو منزلٌ من الأجهزة اللوحية، سواء من «آيباد» أو غيره، صنعت الأجهزة اللوحية لنفسها سوقاً جديدة، ومن يراها اليوم قد لا يصدق أن كل ذلك حدث في أقل من 10 سنوات، عقد من السنين حدثت فيه تغييرات لم تكن لتحدث خلال هذه المدة الوجيزة، لولا وجود عامل غير مفاهيم كثيرة مثل التقنية.
خلال هذه السنوات العشر، انتشرت شبكات الجيل الرابع، وزادت تقنيات الهواتف الذكية، لتصبح أكثر من كونها وسيلة اتصال هاتفي، وأصبحت الهواتف الأكثر شيوعاً في العالم، وبانتشارها أنعشت سوق التطبيقات الهاتفية، التي بدأت بكونها وسيلة للترفيه، لتزيد أهميتها وموثوقيتها مع تطور التقنية، وزيادة الطلب على خدماتها. واتسع نطاق استخدام الهواتف الذكية، لتصبح وسيلة للاتصال والترفيه بأنواعه وقضاء الأعمال والتسوق والتصوير والتوثيق. كما ارتقت الخدمات البنكية، وتوسعت المصارف فيها، بحكم ارتباطها بالهواتف الذكية المتنقلة الأكثر شيوعاً من الحواسيب الثابتة، مدعومة بكفاءة شبكات الجيل الرابع. كل هذه الاستخدامات للهواتف الذكية تبدو منطقية الآن، ولكن الكثير منها كان وحياً من الخيال قبل 10 سنوات فقط!
هذه السنوات أحدثت ثورة في القطاع التجاري؛ ثورة ما زالت مستمرة كان لها مستفيدون وضحايا، فأفلست الكثير من الشركات التي اعتمدت منتجاتها على عدم وجود التقنية، كما أفلست أخرى لم يتناسب نموذج أعمالها مع التطور التقني. بعض هذا الإفلاسات كانت بسبب التقنية مباشرة، مثل شركة «بلاك بستر»، التي كانت تبيع وتؤجر الأفلام السينمائية، فبعد تأسيسها بداية الثمانينات، أعلنت عن إفلاسها منتصف هذا العقد بعد أن تغيرت صناعة مشاهدة الأفلام، فلم يعد أحد يشتري أشرطة أو أقراص الأفلام، وانتعشت بالمقابل سوق الشركات مثل «نت فليكس». انتشار التقنية كذلك تسبب في إفلاس الكثير من المكتبات، وكان ذلك على وجهين؛ فالكثير من الناس أصبحوا يفضلون قراءة الكتب الإلكترونية من خلال الأجهزة اللوحية، أما من يفضل قراءة الكتب الورقية، فوجد المتاجر الإلكترونية تبيع الكتب بأسعار أقل، وتتيح تجربة أفضل في البحث عن خيارات الكتب. وكذلك الأمر لقطاع التجزئة، فأفلست شركات تزيد أعمارها على مائة عام مثل «بون تون»، التي تأسست عام 1898، وشركة «سيرز» المؤسسة عام 1893. كما خرجت شركة الألعاب «تويز آر أص» من السوق بعد 60 عاماً من اكتساح أسواق الألعاب، لتجد نفسها في سوق تحول للألعاب الإلكترونية، المدعمة بانتشار الأجهزة الذكية، وسوق إلكترونية يجد فيها المستهلكون خيارات أكثر مما يعرض في متاجرهم. وليست البضائع الملموسة فقط المتأثرة بالتقنية، بل على العكس، فقطاع الخدمات كان أكثر تأثراً، والتغير الحاصل في سوق الإعلانات خير دليل على ذلك، فجنت شركات مثل «غوغل» و«فيسبوك» المليارات من الإعلانات التي تصل إلى المستهلك من خلال هاتفه، مستعينة بتحليلات البيانات الضخمة التي تدرس سلوك المستهلك، وتوجه له الإعلانات، حسب تفضيلاته الشخصية، تاركة وراءها الكثير من شركات الإعلانات التقليدية مفلسة.
لقد أحدثت التقنية الكثير من التغييرات، خلال العقد الأخير، ووتيرة هذه التغيرات في تزايد، فما كان يتغير في 5 سنوات أصبح يتغير في سنة واحدة، ومفاهيم كثيرة لم تكن شائعة قبل 5 سنوات مثل «فنتيك»، والاقتصاد التشاركي والتمويل الجماعي ومفهوم الشمول المالي، أصبحت الآن من ركائز التجارة والاقتصاد، وأصبحت الدول تتسابق في تطوير هذه الخدمات لتأثيرها الإيجابي على نمو الاقتصاد وزيادة الرفاه المعيشي. ويكفي لمن أراد التأمل في تأثير التقنية، وتسارع وتيرتها في العقد الأخير على مجالات الحياة المختلفة، أن يعرف أنه في عام 2010، كانت شركة «أوبر» شركة مغمورة لا يزيد عمرها على سنة واحدة، لتزيد قيمتها السوقية خلال العقد الأخير على 70 مليار دولار!