توفيق السيف
كاتب سعودي حاصل على الدكتوراه في علم السياسة. مهتم بالتنمية السياسية، والفلسفة السياسية، وتجديد الفكر الديني، وحقوق الإنسان. ألف العديد من الكتب منها: «نظرية السلطة في الفقه الشيعي»، و«حدود الديمقراطية الدينية»، و«سجالات الدين والتغيير في المجتمع السعودي»، و«عصر التحولات».
TT

جدالات ما بعد شحرور

فكرة هذا المقال معروفة لجميع القراء. وأظنها مقبولة عند معظمهم. وخلاصتها أن أكثر المفاهيم مرهون بزمن محدد، قد يمتد بضعة أعوام أو عدة أجيال. نعلم طبعاً أن بعض الأفكار قيم مجردة لا ترتبط بظرف زمني أو مكاني. ومع ذلك فإن مفاهيمها وتطبيقاتها تتغير مع الزمن. خذ مثلاً قيمة العدالة التي عرفها الإنسان منذ أقدم الأزمنة، كقيمة سامية لا يجادل فيها أحد. لكنها فهمت وطبقت في تلك الأزمنة، على صور نعتبرها اليوم نقضاً للعدالة. من ذلك مثلاً العقوبات القاسية كالصلب والحرق، التي اعتبرها الإنسان القديم عقوبات عادلة وعقلانية، لكن إنسان اليوم يرفضها ويستنكرها ويعتبرها هدراً للإنسانية ونقضاً لكافة القيم. ومثلها الرق وتجارة البشر التي قبلتها سابقاً جميع أهل الأديان في مختلف البلدان، ولم يروا فيها مخالفة لمقتضيات العدالة. لكنها اليوم مرذولة ومرفوضة عندهم جميعاً. فهذه الأمثلة وغيرها تكشف أن الظرف الزمني - المكاني للفكرة جزء من حقيقتها أو جزء من مفهومها.
زبدة القول إن الارتباط بين الفكرة والزمن (أو المكان) مما لا يختلف فيه اثنان. في هذه النقطة سيسألني أحد القراء: إذا كان الأمر كذلك، فما الجدوى من تكرار الكلام فيه؟
الداعي لتجديد الكلام، هو كثرة ما لاحظته من تعليقات في الأيام العشرة الماضية، تدل على أن الفكرة، رغم اتفاق الجميع عليها، ما زالت منفصلة عن التفكير الفعلي، سيما في الأمور المرتبطة – ولو من طرف بعيد – بقضايا الهوية والدين. أما مناسبة تلك التعليقات فهي رحيل المفكر المعروف محمد شحرور، وما صاحبه من جدل بين من يتفهم آراءه ومن يعارضها. في هذا الجدل وجدت كثيراً من الناس يقولون: هل نترك آراء مفسري القرآن ونأخذ برأي شحرور؟ وثمة من قال: هل يعقل أن شحرور ومن يسانده، قد فهموا ما عجز الصحابة والتابعون عن فهمه؟ بل إن بعض الدعاة أخذ المسألة لمنحى آخر بالقول: هل يصح أن نأخذ تفسير القرآن من مهندس معماري؟
هذه التعليقات تنصرف إلى معنيين في الغالب:
أولهما: أن القرآن (وبقية النصوص الدينية) لها معنى واحد يمكن لكل عالم باللغة أن يصيبه. ومن هنا فإن التفسيرات الجديدة التي يقترحها محمد شحرور، تتعارض مع الأحادية المفترضة للتفسير.
أما المعنى الثاني فهو أن قدامى المفسرين، ومن نقلوا عنهم من الصحابة والتابعين، هم الجهة الوحيدة المؤهلة لتفسير القرآن أو استنباط الأحكام الشرعية من النصوص، ومن يعرض رأيه اليوم فهو متطفل.
لو قدمت هذا الشرح إلى مئات الأشخاص الذين يشاركون في الجدالات الدينية، فالمرجح أن أكثر من نصفهم سيوافق على واحد من المعنيين، مع التعارض الواضح بينهما وبين المفهوم الأول الذي قلت إنه من المسلمات وفحواه أن الزمن جزء من تشكيل الفكرة.
لا يمكن لشخص يفهم الفكرة الأولى بدقة، أن يوافق على أي من المعنيين اللذين ذكرتهما للتو. بعبارة أخرى فإن الإنسان الواعي يجب أن يختار بين القول بوحدانية الفهم والتفسير في كل الظروف، أو تعدد الفهم والتفسير مع تعدد الأزمنة والظروف.
أظن أنه قد حان الوقت كي تسأل نفسك عزيزي القارئ: هل ترى أن للنص القرآني أو النبوي معنى واحداً، يخبرنا عنه أقرب الناس إلى عصر الرسالة، أم أن لكل جيل مسلم الحق في تبني فهمه الخاص للنص، بغض النظر عن أفهام السابقين؟