حنا صالح
صحافي وكاتب لبناني. رئيس تحرير جريدة «النداء» اليومية (1975 - 1985). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام راديو «صوت الشعب» (1986 - 1994). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام تلفزيون «الجديد» (1990 - 1994). مؤسس ومدير عام «دلتا برودكشن» لخدمات الأخبار والإنتاج المرئي (2006 - 2017). كاتب في «الشرق الأوسط».
TT

تحدي الابتذال

بين جورج زريق قبل نحوٍ من عشرة أشهر وهيثم النيز يوم 13 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، أقدم ثمانية لبنانيين على الانتحار تحت ضغط العوز والفقر ورفضاً للمذلة، كنا أمام بوعزيزي واحد في تونس فلنتأمل حجم المأساة وفداحة الكارثة في لبنان!
وخلال العام الذي نودعه بعد أيام، انفجر الوضع المالي المريع وتأكد أن لبنان ولج الانهيار الكبير، فجاء التصنيف الائتماني العالمي لينقل البلد إلى مستوى «C»، أي اقتصاد الخردة، حيث لا ضمانات للإيفاء بالمتوجبات. وأقدمت البنوك على فرض «كابيتال كونترول» غير قانوني وأوقفت التسليفات واحتجزت الودائع؛ ما تسبب في إهانة عشرات الألوف، خصوصاً أصحاب الودائع الصغيرة، وتتالت الإفلاسات؛ ما تسبب في إقفال مئات المؤسسات وتشريد العاملين فيها، لتتفاقم البطالة التي لامست نسبة الـ50 في المائة من العاملين.
وعندما يتم الكشف عن أن إجمالي موجودات مصرف لبنان، والبنوك مع حساباتها الخارجية وموجوداتها لدى البنوك المراسلة، هي بحدود 40 مليار دولار، في حين المعلن والموثق يُفيد بأن الودائع في المصارف اللبنانية تفوق الـ170 مليار دولار؛ ما يعني أن أموال اللبنانيين وجني عمرهم قد نهبت. وفوق النهب تتم العقوبات على المواطنين فيحرمون من أموالهم ويتم تقسيط حتى المعاشات، وتمنع السلطة القضاء من تسلم دعاوى المواطنين الذين يشاهدون بأم العين نهب ودائعهم. بالمقابل، يطلق صندوق النقد الدولي التحذير من أن ما يزيد على 50 في المائة من اللبنانيين باتوا على حدِّ الفقر أو ما دونه، ويتأكد للقاصي والداني أن لا بديل عن تغيير المسار أولاً لاستعادة الثقة، وثانياً لاستنباط الأسس التي يمكن أن تفرمل الانهيار كمقدمة لحلول مكلفة ممكنة!
في هذا الوقت يتيقن آخر مواطن في أبعد بلدة لبنانية، أن كل الناس باتوا «على الحديدة»، وأن السلطة التي علّقت الدستور وكل الآليات القانونية وأحلت نظام المحاصصة الطائفي - الحزبي، هي الجهة المسؤولة عن هذه المنهبة، وهي الجهة التي سرقت عرق الناس وجهدهم وامتهنت انتهاك الحقوق والكرامات... عند ذلك لا يعود مطروحاً السؤال لماذا يفترش المواطنون الساحات في كل لبنان؟ ولماذا توحّد البلد حول شعار «كلن يعني كلن»، بل السؤال الحقيقي هو لماذا تخلف من المواطنين من تخلف عن النزول إلى الشارع وماذا ينتظر بعد؛ لأن كل هذا النهب وما رافقه من ارتهان وتبعية هو نتيجة سياسات أدت إلى الاستيلاء على المال العام، وهدر جني مواطنين استهلكوا فيه أعمارهم! ولأن ما يمر به لبنان أشبه بجريمة، لم يعد أمراً مفاجئاً أن يتخفى كبار المسؤولين في تنقلاتهم في سيارات مموهة ومن دون مواكب منذ 17 أكتوبر (تشرين الأول) يوم انطلقت ثورة الكرامة حتى اليوم مع دخول الثورة يومها الـ71.
هذه الأسباب وغيرها من تراكمات السياسات التي اتبعت منذ بداية تسعينات القرن الماضي، ومعها استهداف الحريات وبالأخص محاولات قمع الناشطين لفضحهم الكثير من موبقات نظام المحاصصة الطائفي وارتكاباته، أخرجت المواطنين إلى الساحات دفاعاً عن حقوق معيشية وكرامة، لمواجهة تحالف طائفي امتهن استغلال السلطة. وأنجزت الحركة الجماهيرية غير المسبوقة الكثير؛ مصالحة حقيقية وتجاوز الانقسامات الطائفية؛ ما أدى إلى سحب الوكالة من برلمان انتخب وفق قانون متصادم مع الدستور، وإسقاط حكومة المحاصصة التي عكست موازين القوى بعد تسوية عام 2016، التي سلمت قرار البلد إلى «حزب الله». لكن السلطة، وقيادتها الفعلية بيد «الحزب»، رفضت الاستماع لصوت الذين أسقطوا الترهيب والتخوين والتهديد بالحرب الأهلية وخلق فتنة طائفية، والأنكى استمر نهج الصفقات والإنفاق المشبوه تزامناً مع محاولة استنساخ تلك الحكومة، وكانت محاولة بدعة التأليف قبل التكليف، والإمعان في انتهاك الدستور. وأدت المناورات إلى تكليف حسّان دياب، بعدما نال أصوات 69 نائباً هم نواب فريق «الممانعة»... وكان لافتاً وجود توافقٍ أوسع مع امتناع الحريري عن تسمية أي مرشح، إلى أجواء شاعت عنوانها: اعطوه فرصة، مع أن هذه المعزوفة عمرها من عمر النهب!
كانت للرئيس المكلف جملة إطلالات، لم تحمل أي إشارة تشي بأنه يعرف البلد، خصوصاً ما بعد 17 أكتوبر. نسج على منوال كل السياسيين في خطب ودِّ الثورة بالقول إن كل شعاراتها هي شعاراته! وترداد أنه سيشكل «حكومة مستقلين تكنوقراط»، وأن أحداً ممن اختاره للمنصب لا يضغط عليه، وعندما يُسأل من أين أتى بهذه القوة يقول: حسّان دياب لا يطلب شيئاً لنفسه (!) ويتحدث بأريحية المنتدب للإنقاذ والبلد في القاع، ويفوته التوقف أمام تخبط النظام الاقتصادي في أزمة مالية غير معهودة أدت إلى انكشاف تداعيات الدين العام، وهبوط سعر صرف الليرة، فانهار المستوى المعيشي للمواطنين.
ويتتالى الإخراج الرديء كفيلم الاجتماعات مع مجموعة أناس أُريد منها تحسين صورة المكلف، الذي ستُؤلف له الحكومة، وربما من التكنوقراط، وهنا ليس أمراً بسيطاً اضطرارهم إلى إخراج الوزير باسيل لأول مرة منذ عام 2008، وليس بسيطاً غياب لون «حزب الله» الفاقع عن التركيبة، لكن مهلاً لن تكون هذه الحكومة السلطة الفعلية، بل سيبقى القرار بين أركان التسوية المستمرة، التي ستطبق السياسات نفسها والتسويات نفسها المعدة سلفاً، ويتزايد الارتهان والتبعية... حكومتهم قد تكون جاهزة للإعلان، وتحت اسم التكنوقراط الذين سيختارونهم لتنفيذ إدارة تقنية سطحية بوهم القدرة على تأبيد تركيبة نظام المحاصصة المحمي من الدويلة!
إنهم يزخمون الثورة التي باتت أمام تحديات أكبر لرفض الابتذال وفرض التفاهة. الممسك بالقرار - «حزب الله» - يعمل لتثبيت الوضع ليبقى البلد ورقة في ملف المفاوض الإيراني؛ ما سيعمم الأذى ويفاقم الانهيار. هذه اللحظة تحتم الانتقال إلى مستوى أعلى من خوض المواجهة في السياسة والارتقاء في التنظيم، والبداية الخلاص من الأدران الكثيرة وبعض مظاهر الكرنفال، والتمسك بضرورة قيام حكومة مستقلة عن الأحزاب الطائفية، تحمي القضاء ليقوم بدوره وتنظم انتخابات مسبقة وفق قانون عادل لإعادة تكوين السلطة، ودون ذلك قد يستيقظ البلد على محاولة إنزال «اتفاق سياسي» يزيد من التشوهات التي أُلحقت بالدستور ويلغي وثيقة الوفاق الوطني ويضع المثالثة في التطبيق!