تريزا رفائيل
TT

«بريكست»... عراقيل وخروج حتمي

استفاقت الأسواق المالية على ما فعله بوريس جونسون، رئيس الوزراء البريطاني في اليوم الأول بعد عودته إلى منصبه. عوضاً عن استغلال ما حصل عليه من أغلبية برلمانية جديدة في الدفع باتجاه إقامة علاقة تجارية طموحة مع أوروبا بعد «بريكست»، واصل تنفيذ تعهده الانتخابي بالإسراع نحو إتمام المحادثات التجارية خلال العام المقبل، مشيراً إلى أنه إما سيتم التوصل إلى اتفاق أساسي وإما عدم التوصل إلى اتفاق مطلقاً، وفي الحالتين سيتضرر الاقتصاد البريطاني.
يتيح اتفاق «بريكست»، الذي أبرمه جونسون في أكتوبر (تشرين الأول)، التمديد لمدة عام أو اثنين من أجل إتاحة الفرصة لمفاوضات تجارية مدروسة بشكل أكبر، لكن يتنازل جونسون عن هذا الخيار. وسوف يتضمن مشروع اتفاق الانسحاب، الذي سيقدمه إلى البرلمان يوم غد الجمعة، بنداً جديداً يجعل من غير القانوني بالنسبة إلى بريطانيا طلب تمديد الفترة الانتقالية الحالية التي تمتد حتى نهاية 2020.
ربما يبدو غريباً أن تقف حكومة تحظى بأغلبية برلمانية تتمثل في 80 مقعداً، مغلولة اليدين عند العمل على أهم مفاوضات بالنسبة للبلاد خلال جيل. مع ذلك تستهدف خطوة جونسون فئتين محليتين تتمثلان في الناخبين المؤيدين لمغادرة المملكة المتحدة للاتحاد الأوروبي ممن منحوه تلك الأغلبية، ومشجعي «بريكست» داخل حزبه البرلماني والذين لا يزال لديهم ثقل. لحسن الحظ لقد ترك لنفسه مساحة من التفاوض أكبر مما تبدو للوهلة الأولى.
من أجل جذب مؤيدي «بريكست» وكسبهم، وتحييد موقف حزب نايجل فراج المؤيد لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، تعهد جونسون عدم تمديد تلك الفترة الانتقالية الأولية. كذلك أشار إلى أنه لن يوافق على طلبات الاتحاد الأوروبي بشأن البنود الخاصة بـ«تحقيق مبدأ تكافؤ الفرص» والتي سوف تلزم بريطانيا بالتوافق مع الكتلة والارتباط بها في مجالات مثل مساعدات الدول، واللوائح التنظيمية الاجتماعية والبيئية. كذلك يبعث برسالة إلى هذه القاعدة الانتخابية تفيد بأنه ملتزم بوعوده.
وتقول تلك الخطوة للعامة: «أنا أعرف لماذا أنا هنا». وقد أثبت انتخابه أن الناس قد سئمت «بريكست» وأنها ليست منزعجة من شروط الخروج بقدر ما هي مهتمة بسرعة القيام بذلك. يدرك جونسون جيداً أن الثقة بالسياسيين متدنية للغاية، وأن الثقة بصدقه متراجعة هي الأخرى. إنه لا يرغب في أن ينظر الناس إليه كشخص نكث بالوعد الذي جعله يفوز بالانتخابات.
كذلك يخبر ذلك التحرك أعضاء البرلمان الجدد، خصوصاً أولئك القادمين من شمال إنجلترا المؤيدين لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، بأن عليهم إتمام اتفاق «بريكست» إذا كانوا يرغبون في الحفاظ على مقاعدهم في المستقبل. في النهاية سيعني ذلك العثور على طرق تجعل حياة الناخبين، وأكثرهم من العمال، أفضل بشكل ملحوظ واضح، وهو أمر سيكون من الصعب تحقيقه في ظل تنفيذ اتفاق «بريكست». مع ذلك يبدو أن الكثير من الناخبين البريطانيين لا يدركون الخطر الاقتصادي الناجم عن الخروج من الاتحاد الأوروبي في وقت بات فيه تحقيق ذلك أمراً تحتمه السياسة.
كذلك يخاطب الالتزام بالتوجه الصارم في الخروج من الاتحاد الأوروبي الجناح المنتقد للاتحاد الأوروبي في حزب المحافظين داخل البرلمان. أغلبية جونسون قوية، ولم تختفِ مجموعة البحوث الأوروبية المكونة من مشرعين متشددين مؤيدين للخروج من الاتحاد الأوروبي، والمسؤولة بشكل كبير عن إنهاء مدة سلفه في المنصب تيريزا ماي. وفي الوقت الذي لدى جونسون «تكليف كبير» كما يطلق عليه، ربما تتسبب حرب استنزاف تدور رحاها حول طاولة المفاوضات في بروكسل في تآكل ذلك الدعم.
يشير ستيفن بوش من مجلة «نيو ستيتسمان» إلى أن توني بلير، رئيس الوزراء الأسبق المنتمي لحزب العمال، مُني بهزيمة كبيرة من جانب حزبه في أوج قوته عام 1997، وكذلك مارغريت ثاتشر عام 1986 حين صوت 72 عضواً في البرلمان ضد خططها لتغيير القيود على فتح المتاجر يوم الأحد. بطبيعة الحال لم تكن أي من عمليتي التصويت على مسألة تاريخية بهذا الحجم. مع ذلك من الجدير الالتفات إلى الملاحظة، التي توضح أن إسقاط أغلبية جونسون لا يتطلب سوى 40 مشرّعاً غاضباً.
لن يكون أي من ذلك مريحاً لمجال الأعمال الذي تعهد بأن يكون أكثر تعبيراً عن ذاته أثناء المحادثات التجارية. يعني موقف جونسون أنه يتم العمل على التوصل إلى اتفاق أصغر في نطاق تجاري أكثر ضيقاً مما يرغب فيه رؤساء الشركات. كذلك يجعل من المرجح انتهاء المحادثات دون التوصل إلى اتفاق وهو ما يمثل نتيجة سلبية أدت إلى تراجع الجنيه الإسترليني يوم الثلاثاء.
كذلك من غير المرجح أن تسود حالة من اليقين حتى عام 2020 لم يضع الاتحاد الأوروبي أو المملكة المتحدة أهدافاً محددة للتفاوض أو اتفقا على ترتيبات ومراحل المحادثات. يعني تبني إطار زمني قصير عدم تناول الكثير من القضايا الشائكة، من الخدمات حتى البيانات. كذلك من غير الواضح بعد ما إذا كانت المفاوضات في بروكسل ستتم بالطريقة نفسها التي تمت بها محادثات الانسحاب أم لا. ولا يزال كبير المفاوضين في الاتحاد الأوروبي ميشيل بارنييه يدير النقاشات، لكنها مفوضية أوروبية جديدة تتضمن إصلاحات كبرى، ولديها ما تهتم به من محادثات خاصة بموازنتها. وتقدم أي محادثات تجارية فرصة أكبر لظهور اختلافات بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي.
مع ذلك هناك أمران يدعوان إلى التفاؤل؛ الأول هو أن أسوأ سيناريو لن يكون «عدم التوصل إلى اتفاق» والذي يمثل جائحة اقتصادية، وقد قلقنا منه خلال الجزء الأكبر من عام 2019، فقد تم التوصل بالفعل إلى شروط الانفصال، وضمان حقوق مواطني دول الاتحاد الأوروبي، وحل مسألة الحدود الآيرلندية على نحو ما. كذلك هناك الكثير من الاستعداد من جانب الحكومات ومجال الأعمال لزيادة الرسوم الجمركية وعمليات الفحص التنظيمية. الأمر الأكثر ترجيحاً هو ما يمكن للمرء تسميته «بريكست باتفاق محدود» أو حتى «بريكست باتفاق بطيء» نظراً لاحتمال إقرار الاتفاق التجاري الأول لبعض المجالات الأساسية، وتركه الباب مفتوحاً أمام إقامة صلات أكثر قوة في مجالات أخرى لاحقاً.
السبب الثاني لعدم الشعور بالذعر هو إمكانية تأجيل الموعد النهائي لاتفاق «بريكست». أياً ما كان الذي يعرقل تأجيل الفترة الانتقالية في البرلمان، لا يعتقد أحد حقاً أن حكومات الاتحاد الأوروبي والحكومة البريطانية لن تتمكن من العثور على طريقة لمنح أنفسهم المزيد من الوقت إذا ما اختاروا ذلك. وقد حدث ذلك بالفعل من قبل.
* بالاتفاق مع «بلومبرغ»