يحفل شهر ديسمبر (كانون الأول) من كل عام باستعراض نوعين من التقارير الاقتصادية والمالية الصادرة عن جهات شتى؛ النوع الأول يرصد ما جرى في الشهور السابقة منذ بداية العام الموشك على الانتهاء، والنوع الثاني ينشغل بتوقعات للعام الجديد. وتجد احتفاءً مبالغاً فيه بهذه التقارير المسماة بالدولية إذا جاءت بمؤشرات إيجابية. وقد اتسعت صفة الدولية هذه لتشمل مجموعة شديدة التباين من النشرات والإصدارات، منها ما يصدر من منظمات ومؤسسات دولية حكومية وغير حكومية رصينة، ومنها ما يستند إلى جهود معتبرة لفرق عمل متخصصة، ومنها ما لا تعرف منهجاً له أو مرجعاً.
وتكثر الإشارة إلى إصدارات بعينها لا لشيء يميزها إلا أنها كُتبت بلغة أجنبية، أو أنَّ جهة الإصدار ذات اسم رنان. وتتزايد حالات الاجتزاء المتعمد والانتقاء المتحيز وفقاً للميل السياسي بما يشوه المعلومة فتضيع الحقيقة ويضل المتلقي، فيتساءل عموم الناس عن تناقض بين هذه التقارير وما تفصح عنه أحوالهم وما يجري في محيطهم.
واللجوء إلى التقارير الدولية قد يكون لإظهار الاحتكام لجهة محايدة، كمن يستعين بحكم أجنبي في مباريات كرة القدم بين متنافسين. هذا وإن استمدت هذه التقارير مصادر معلوماتها في الأصل من ذات الجهات المحلية دون مراجعة تُذكر، فكأنها بضاعة رُدّت في النهاية لأصحابها بخيرها وشرها.
ومن مشكلات النقل غير الدقيق أخطاء التعميم، كمن يستخدم مؤشراً بعينه إذا أصابه تحسن على أن فيه الخير كله، وإن تراجع فهي طامة كبرى. وأكثر المؤشرات عُرضة لإساءة الاستخدام هو معدل النمو الاقتصادي. وفي نقاش مطوّل مع مجموعة عمل درست محددات النمو والتنمية قادها الاقتصادي الحائز جائزة نوبل مايكل سبنس منذ أكثر من عشر سنوات، تبين بجلاء أن النمو ضروري لتحقيق التنمية وتحسين أحوال عموم الناس ولكنه غير كافٍ وحده، وأن الدول التي حققت وثبات في التنمية، كما فعلت اليابان ثم كوريا وسنغافورة ثم الصين، استثمرت في البشر في المقام الأول من خلال التعليم والرعاية الصحية، كما أحدثت تطويراً نوعياً في البنية الأساسية، ونفّذت قواعد القانون والحوكمة، ودعمت تنافسية الأسواق وفاعلية الرقابة عليها وثبّتت من دعائم استقرار الاقتصاد الكلي.
نحن إذن أمام كم هائل من المؤشرات الرئيسية والفرعية التي تقيس الأداء الاقتصادي وتطورات التنمية لا يمكن اختزالها في مؤشر واحد بحال. ولتيسير الأمر لمتابعة إدارة شؤون الاقتصاد في سباق الأمم يمكن الاسترشاد بمثل قيادة سيارة في طريق متعرجة تتراوح بين الصعود والهبوط وسيارات الأمم الأخرى بين متقدمة ومواكبة ومتأخرة. وحتى تواصل السيارة هذا السباق فعليها أن تتمتع بمتانة وسلامة تحمي راكبيها، وأن يكون الركاب وقائد السيارة أصحاء متعلمين على دراية بما يفعلون. ولا تمكن قيادة السيارة دون متابعة لعدادات لوحة التحكم dashboard: فهذا عداد للنمو، وذاك عداد ثانٍ للتضخم، وثالث للبطالة، ورابع لمؤشرات الفقر ومدى العدالة في توزيع الدخل، وهكذا. ويجب أن تكون هذه العدادات دقيقة ومحدَّثة بالمستجدات، فقائد السيارة ومن معه لن تفيدهم البيانات المتقادمة في شيء.
هذا مثال للاستدلال به على أن متابعة الأداء الاقتصادي تكون من خلال متابعة مستمرة لعدة مؤشرات رئيسية، وليس مؤشراً واحداً، مثل متابعة عدادات لوحة التحكم بالسيارة وبطريقة تعين قائدها على التوقي من الحوادث والصدمات.
وكما في شؤون الحياة الأخرى فالحكم على الأداء الاقتصادي فرع عن تصوره. وهذا التصور بدوره يستند إلى حقائق وانطباعات. ولا يمكن وفقاً لأصول الاقتصاد السياسي واعتبارات التعامل مع عموم الناس تغييب الحقائق، وإلا تُرك الناس للظن بما هو أسوأ، كما لا يمكن تجاهل الانطباعات فهي تشكّل آراء الناس وأحكامهم أيضاً.
ولا نغفل أن ما يقدَّم على أنه حقائق، قد تشوبها أخطاء غير متعمدة في الرصد والمراجعة والعرض، أو عدم سلامة المنهج أو الطريقة المتبعة، وقد تشوبها أيضاً أخطاء متعمدة لا يمكن تبريرها كالتدليس والتلاعب بالبيانات وتعمد تأخير إصدارها للإفلات من الرقابة والمحاسبة.
أما الانطباعات عن الاقتصاد فهي خاضعة أيضاً لكمٍّ هائل من العوامل التي تؤثر عليها وتزيد الانطباعات السلبية سوءاً بغياب المعلومات وقصور تداولها. كما تتأثر بحملات الترويج، والتشويه أيضاً، فضلاً عن التأثيرات الثقافية والآيديولوجية.
وهناك من مراكز البحث ما يضع الموارد للتبين والتيقن من المعلومات والبيانات وإجراء اختبارات لفحصها، وهي عمليات مضنية ومكلفة ليست في متناول الجميع، إلا بما تصدره مؤسسات متخصصة في مجالات عملها.
وعند صياغة السياسات العامة وتوجيه الأجهزة المنوطة بتنفيذها تنبغي التفرقة بين الإجراءات التي تحسّن من حقيقة الأوضاع فعلاً وعملاً، وتلك التي تتعامل مع ما قد ينتشر من انطباعات مختلفة. فعلى سبيل المثال، فإن أرقام البطالة في العالم العربي مرتفعة للغاية، وتبلغ ضعف المتوسط العالمي وهو 5.7%، ولكن الانطباع قد يكون أسوأ أو أفضل مما ترصده هذه المتوسطات. فهناك من يذهب إلى أنه لا توجد بطالة تُذكر لأنه يبحث عن عاملين لمصنعه فلا يجد، وهناك من يرى أن البطالة منتشرة لأنه والمحيطون به في القرية يبحثون عن عمل فلا يجدون.
ولا سبيل للتعامل مع التناقض بين الحقائق والانطباعات إلا بالعلم وجودة الإفصاح والمصداقية. ففي حالة البطالة هناك طرق علمية متعارف عليها لقياس تطورها من خلال المسوح الميدانية الشاملة أو من خلال تحليل عينات ممثلة للمجتمع، وكذلك هناك أسس علمية متعارف عليها لاستقصاء الرأي والتعرف على اتجاهات الرأي العام. وقد يسّر تقدم تكنولوجيا المعلومات سبل جمع وتحليل البيانات ونشر تقاريرها بتكاليف أقل وزمن أسرع مما كان عليه الأمر منذ سنوات معدودة.
وفي هذا كله إشارات ترشد صانع القرار فيتخذ في حالة البطالة الإجراءات التي تخفض منها، مراعياً ما قد يكون في سوق العمل من تباين واختلال بين تخصصات ومهارات من يتقدمون لسوق العمل والطلب عليها.
وقد صدر مؤخراً، عن مشروع بحثي مشترك لجامعتي برنستون وميشيغان الأميركيتين، تقرير البارومتر العربي الذي أُعد على خمس موجات متتالية من المسوح، من خلال استقصاءات تمت بإجراء 70 ألف مقابلة مع عموم الناس في 15 دولة عربية على مدار الأعوام الثلاثة عشر الماضية. وجاءت الانطباعات لتشير إلى أداء اقتصادي متراجع مع سلبية التوقعات، وكان الأداء الحكومي منخفض التقييم، وأظهرت المسوح عجز الحكومات عن إتاحة فرص العمل والسيطرة على ارتفاع معدلات التضخم، وتحقيق العدالة ومكافحة الفساد، وإنْ تحسن تصنيف الأداء الأمني. ويعكس هذا التقرير المبنيّ على التعرف على الانطباعات ما تعكسه أيضاً مؤشرات أداء الاقتصاد الكلي للمنطقة العربية. ولعل العقد الثالث من هذا القرن يحمل من الخير للعرب ما لم يحمله العقد الثاني، الذي سيصنف كعقد مفقود للتنمية في البلدان العربية، إلا قليلاً.
* النائب الأول لرئيس البنك الدولي
* الآراء الواردة في هذا المقال لا تعكس بالضرورة رأي البنك الدولي
TT
عن عموم الناس والتقارير الدولية
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة