جمعة بوكليب
كاتب ليبي؛ صحافي وقاص وروائي ومترجم. نشر مقالاته وقصصه القصيرة في الصحف الليبية والعربية منذ منتصف السبعينات. صدرت له مؤلفات عدة؛ في القصة القصيرة والمقالة، ورواية واحدة. عمل مستشاراً إعلامياً بالسفارة الليبية في لندن.
TT

حرب أفغانستان بين واقعين

في نهاية شهر أغسطس (آب) من عام 1997 توفيت الأميرة ديانا، في باريس، في حادث سيارة أليم. كان حزب العمال، بزعامة توني بلير، قد رجع إلى السلطة، قبل ذلك الحادث بثلاثة أشهر، بعد قرابة 20 عاماً من وجوده على مقاعد المعارضة. وكان خبر الوفاة حدثاً جللاً غطى على كل ما عداه من أحداث وأخبار. في تلك الأيام العصيبة المحزنة، قامت سيدة تعمل مستشارة اتصالات بإحدى الوزارات بإرسال بريد إلكتروني إلى زملائها وزميلاتها في الحكومة تطالبهم فيه بالإسراع بنشر وتمرير، على وجه السرعة، كل ما لديهم من تقارير سلبية تضر بسمعة الحكومة، لأن الوقت مناسب جداً.
الغرض من ذلك واضح. وهو أن تلك التقارير غير الإيجابية سوف تظهر وتختفي دون أن تلفت انتباه وسائل الإعلام المختلفة لانشغالها جميعاً بحدث قومي جسيم، وبالتالي تتفادى الحكومة أي إحراج كان محتّماً أن تسببه تلك التقارير. لسوء حظ تلك السيدة، والحكومة العمالية، سُرّبت تلك الرسالة الإلكترونية، بفعل فاعل إلى وسائل الإعلام، وسببتْ إحراجاً للحكومة.
ما فعلته تلك السيدة ليس جديداً تماماً، وهو أمر متعارف عليه في دواوين الحكومات الأوروبية باختلافها، لاستغلال الأزمات بقصد تمرير ما يستلزم تمريره في الزحام، من أخبار غير سارّة.
في الأسبوع المنصرم، اطلعتُ على تقرير في صحيفة «واشنطن بوست»، وما إن انتهيت من قراءته حتى تذكرت، على الفور، تلك السيدة وما فعلته، وتبيّن لي وجه الشبه بين الحالتين: حادثة وفاة الأميرة في بريطانيا مقابل أزمة اتهام الرئيس ترمب من قِبل النواب في الكونغرس الأميركي.
تقرير صحيفة «واشنطن بوست» يتعرض لتقرير نشرته لجنة (Special Inspector General for Afghanistan Reconstrcution - Sigar)) وهي لجنة حكومية أميركية أُسست عام 2008 بغرض رصد وتحليل الوجود العسكري الأميركي في أفغانستان. ويتناول التقرير حقائق مثيرة أجدرها بالذكر أن مسؤولين كباراً في إدارتي الرئيسين بوش الابن وأوباما كانوا على وعي بعدم إمكانية تحقيق نصر عسكري في أفغانستان، ومع ذلك ظلوا، وبشكل متواصل، يؤكدون، كذباً، لمواطنيهم عكس ذلك.
بغرض تبرير الحرب في أفغانستان، حرصت الإدارتان على إصدار إحصائيات غير صحيحة. وكان المسؤولون بهما، من كابل إلى واشنطن، يدْلون بتصريحات وبيانات لا علاقة لها بحقيقة ما يجري على أرض الواقع، لمحاولة إقناع المواطنين الأميركيين بتحقيقهم تقدماً نحو هدف هزيمة وإزاحة حركة «طالبان»، في الوقت الذي كانت فيه القوات الأميركية، تغوص عميقاً، يوماً بيوم، في مستنقعات تلك الحرب، حسبما أكدته 2000 صفحة من الوثائق التي شملها تقرير اللجنة المذكورة.
واستناداً إلى ذات التقرير، فإنه خلال الـ18 عاماً التي تؤرخ لفترة الحرب نشرت الإدارات الأميركية في أفغانستان 775 ألف عسكري، قُتل منهم 2300، وما زال الرئيس الحالي ترمب يسعى لإعادة التفاوض مع «طالبان» بغرض سحب 13 ألف جندي.
اللجنة، التي ترأسها شخص يدعى جون سوبكو، أجرت مقابلات مع مسؤولين أميركيين في إدارتي الرئيسين بوش الابن وأوباما، اعترفوا خلالها بالفشل الذريع الذي واجهوه خلال تلك الحرب، وفي مقدمته انتشار الفساد وتشجيع تجارة مخدر الأفيون. لكن هذه الحقائق أُخفيت قصداً ليس فقط عن المواطنين العاديين بل حتى عن القادة العسكريين والجنود أنفسهم. أحد كبار القادة قال لدى المقابلة مع اللجنة: «الحقيقة غير مرحب بها. والجميع يريد سماع الأخبار الطيبة... لذلك فإن الأخبار السيئة كانت عُرضة للإخفاء. وكل المعلومات البيانية تعرّضت للتغيير بغرض تقديم أفضل صورة ممكنة».
الحقيقة الأخرى، هي أن أهداف تلك الإدارات الأميركية من الحرب والممثلة في بناء نظام ديمقراطي في أفغانستان مدعوم بقوات شرطة وقوات عسكرية مكتفية ذاتياً، إلى جانب اقتصاد قائم على السوق الحرة لم يتم تحقيق أي منها، بل إن تجارة المخدرات كانت «الجزء الوحيد العامل في السوق». وفي عام 2015 اعترف قائد عسكري آخر كبير للجنة قائلاً: «كنّا لا نملك فهماً للأساسيات في أفغانستان – ولم نكن نعرف ماذا كنّا نفعل».
اللجنة لم تكتفِ بإجراء مقابلات مع كبار الضباط الأميركيين، بل التقت، أيضاً، نظراءهم من الضباط البريطانيين الذين حاربوا معهم جنباً إلى جنب. واعترف هؤلاء بفشل المشروع الأميركي المتمثل في منح مزارعي نبات الخشخاش من الأفغان مالاً لقاء توقفهم عن زراعته. وكانت القوات البريطانية قد أسهمت في تنفيذ المشروع قبل توقفه نهائياً في عام 2004. وبدلاً من ذلك، ازدادت، حالياً، زراعة نبات الخشخاش، وارتفعت حصيلة ما يُنتج من مخدر الهيروين أربعة أضعاف عما كانت عليه في عام 2002.
تقرير كهذا، بما يحويه من حقائق، وما يكشفه من أباطيل، لا سبيل إلى تمريره من دون أن يثير فضيحة سياسية، أو على الأقل ضجة كبيرة، إلا باختيار وقت مناسب، تكون أذهان واهتمامات وسائل الإعلام والرأي العام موجهة جميعاً نحو حدث واحد رئيسي، وكبير. ولا أعتقد بوجود حدث يليق بالتغطية على غيره من الأحداث، في واشنطن، أفضل من القضية الحالية المتعلقة باتهام الرئيس من قِبل مجلس النواب.