وائل مهدي
صحافي سعودي متخصص في النفط وأسواق الطاقة، عمل في صحف سعودية وخليجية. انتقل للعمل مراسلاً لوكالة "بلومبرغ"، حيث عمل على تغطية اجتماعات "أوبك" وأسواق الطاقة. وهو مؤلف مشارك لكتاب "أوبك في عالم النفط الصخري: إلى أين؟".
TT

هل طرح أسهم أرامكو إنجاز حقيقي؟

رغم تغطية اكتتاب أرامكو بنحو خمس مرات، ووصول قيمة الشركة السوقية إلى تريليوني دولار في اليوم الثاني من تداول أسهمها، فإن البعض في وسائل الإعلام لا يزالون يعتبرون كل ما حدث «انتصارا وهميا»، وهناك مقالة في «الفايننشيال تايمز» تحمل هذا العنوان بكل صراحة ووضوح.
وانتقل الحديث الآن من الهجوم على قدرة الحكومة السعودية على جمع المليارات من خلف الطرح ومن التشكيك في جدواه، إلى الحديث عن اعتباره إنجازا أم لا، وهل سيكون في صالح الاقتصاد السعودي أم سيكون سلبياً عليه؟
الحكومة السعودية ليست في مواجهة مباشرة مع الإعلام، والهدف من طرح أرامكو اقتصادي أكثر منه سياسي. لقد نجح الطرح بكل المعايير المالية، وحققت المملكة أهدافها المعلنة من ورائه وجمعت 96 مليار ريال في أكبر اكتتاب عرفه التاريخ لشركة تجاوزت قيمتها السوقية قيمة أي من الشركات المدرجة في كل بورصات العالم والمتداولة اليوم.
وحتى يكون إنجاز طرح أرامكو حقيقياً (سواء اقتنع الإعلام أم لم يقتنع) سيكون التقييم في فائدته على الاقتصاد السعودي. وفي نظري فإن التوجه الحالي للحكومة السعودية مطمئن جداً حسب ما سمعناه في الإعلام؛ إذ إن الحكومة (من خلال صندوق الاستثمارات العامة) تنوي استثمار غالبية الأموال التي جمعتها داخلياً لتنمية القطاعات التي تحتاج إلى نمو.
ولهذا فإنه من المبكر أن يحكم أحد على اكتتاب أرامكو، ويجب أن ننتظر لنرى نمو الاقتصاد غير النفطي في المملكة العام القادم ونسبة نمو المشاريع وحركة التوظيف. إن هناك مشروعات عملاقة معروفة باسم «المشاريع الغيغا» مثل البحر الأحمر والقدية ونيوم وهناك مشروعات غيرها سوف تتسبب في حراك اقتصادي كبير في الفترة القادمة، وستخلق فرص عمل للمواطنين بكل تأكيد وفرصا تجارية لقطاع الإنشاءات الذي عانى بعض الشيء في العامين الماضيين.
أما الحديث الذي يقوده الإعلام فهو عن جدوى اكتتاب أرامكو أو مقارنة أسهمها بأسهم إكسون موبيل أو شل، واعتبار أن عوائد أرامكو بناء على قيمتها السوقية الحالية تشكل 3.75 في المائة، وهو العائد نفسه على سنداتها وأقل من عوائد إكسون موبيل (5 في المائة) وشل (6.8 في المائة). والحقيقة أن الأصول التي تديرها أرامكو وحجم تدفقاتها المالية هي أضعاف ما يمكن لإكسون وشل وغيرهما جمعه، وأرامكو على عكس هذه الشركات لا تستدين بصورة كبيرة لتغطية نفقاتها أو دفع الأرباح للمساهمين.
أنا لست هنا للدفاع عن الطرح، ولكن حقيقة لا أزال أرى تحاملا غير مبرر أو منطقي على أرامكو السعودية. ويجب أن أعترف بأني لست من أنصار مدرسة أرامكو الإدارية ولكن هذا لا يجعلني أتحامل عليها وأتجاهل قدرتها المالية وسجلاتها الباهرة.
وحتى الانتقاد بأن المملكة لجأت لكل الأساليب الممكنة لجمع الأموال محلياً من تقديم تسهيلات وإعطاء أسهم منح للمساهمين الأفراد أو الطلب من الأسر التجارية وحكومات الخليج الدخول في الاكتتاب؛ كله ليس مقنعاً. فأسهم أرامكو استثمار جيد للمؤسسات والأفراد والحكومات.
أما الانتقاد بأن المملكة فشلت في الابتعاد عن النفط واضطرت للاعتماد على الأموال المحلية الناتجة عن النفط للاستثمار في شركة نفطية، بدلاً من الحصول على أموال أجنبية، كذلك ليس مقنعاً. فالهدف من الاكتتاب هو جمع الأموال للاستثمار في مشاريع غير نفطية. وبالنسبة للمستثمرين فإن شركة تدفع عوائد مستقرة وعالية بغض النظر عن مستوى أسعار النفط يعتبر أمرا جيدا.
وهناك انتقاد آخر بأن المملكة قد تتأثر من وراء الاكتتاب، فبدلاً من الحصول على جميع هذه الأموال فهي سوف تشاركها مع المستثمرين، أو أن هذه الأموال التي تم جمعها كانت في طريقها لنواحي أخرى في الاقتصاد السعودي ولكنها ذهبت إلى أرامكو السعودية بدلاً من ذلك... وهذه ليست انتقادات مبنية على منطق اقتصادي بل على تصورات شخصية، فالمنطق يقول إن مشاركة الثروة الوطنية أمر مهم، والمواطن السعودي حصل على دخل جديد غير مباشر. في السابق كان الكل يحصل على مرتبات أو إعانات أو دعم للسلع والخدمات... واليوم لا يزال المواطن يحصل على كل هذا ومعه عائد مباشر من أسهم أرامكو.
ولا تزال الأموال التي تم جمعها ذاهبة لتنمية الاقتصاد السعودي غير النفطي من خلال صندوق الاستثمارات العامة. وهنا تنتقل المسؤولية إلى الصندوق لجعل هذا الاكتتاب منجزاً حقيقياً في نظر العالم.
وتبقى المنجزات الأهم في نظري هي قدرة أرامكو السعودية على استعادة نصف إنتاجها النفطي بعد الاعتداء على منشآتها، خلال فترة وجيزة دون التأثير على السوق العالمي. نعم لا تزال أرامكو تتعامل مع بقايا الصدمة، ولكن الأمور في تحسن مستمر.
والإنجاز الآخر في نظري هو أن السعودية هي البلد الوحيد بين كامل دول أوبك التي ترى تراجعا سنويا في سعر النفط اللازم لمعادلة موازنتها العامة السنوية. إذ أظهرت تقديرات صندوق النقد الدولي أن المملكة هي الوحيدة من بين أكبر خمسة منتجين في أوبك التي ستحتاج في العام المقبل إلى سعر أقل، حيث ستحتاج إلى 83 دولارا لتعادل الميزانية، وهو أقل من سعر 2019 و2018، بينما الصورة في المنتجين الأربع الآخرين هي العكس تماماً.
وسيكون الإنجاز الأعظم والأكبر في نظري في العام القادم هو قدرة المملكة على الإطلاق الفعلي للمشروعات غير النفطية، حيث انتهت المملكة في 2019 من أهم إنجاز نفطي سعت له، وهو طرح أكبر شركة نفط في العالم، بقيمة سوقية هي الأكبر، في اكتتاب هو الأكبر في التاريخ.