خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

الكلك والكلاكو

من المخترعات العراقية القديمة التي أصبحت عبر القرون منذ أيام بابل وآشور الوسيلة الأساسية للنقل على نهر دجلة ما كان يعرف بالكلك. وهي كلمة ترجع إلى تلك العصور، حيث وردت في النصوص السومرية باسم كلاكو. كما رسمها الفنان الآشوري في أعماله النحتية على الحجر. ولمن لم ير الكلك، أقول إنه عبارة عن مجموعة من جلود الغنم تنفخ بشكل قرب، وتشد بعضها ببعض ثم توضع عليها ألواح خشبية فتصبح سطحاً منبسطاً تحمل عليه البضائع ويجلس عليه المسافرون، بل وينامون في انتقالهم بين الموصل وبغداد.
تخصص في هذا النوع من النقل النهري سكان تكريت قبل أن يتوجه أبناؤهم للسياسة والمؤامرات السياسية. اعتادوا على شد هذه الكلكات ثم تحميلها بالبطيخ والخيار وما كان هناك من خيرات المنطقة والتوجه بها في سفرة طويلة إلى حارة الجعيفر في بغداد، أو على وجه الدقة حارة التكارتة التي سميت باسمهم. يبيعون هناك ما حملوه من بضاعة وما كان على الكلك من أخشاب وأعمدة في المخازن المجاورة. ثم يفشون الجلود من الهواء ويجففونها ويعودون بها إلى تكريت. تولى هذا العمل في بغداد التاجر اليهودي سلمان أبو بنحاس الذي تخصص في بيع الحطب والأخشاب في جانب الكرخ. لم يفرق الناس في تلك الأيام بين مسلم ويهودي ومسيحي في الأعمال التي تهم الجميع.
أصبح العراق في تلك الأيام يعتمد على الخبرات والتقنيات الأجنبية ونسي أهله أن بلدهم كان لمئات السنين هو الذي يجود على البشرية بمثل ذلك. ومن الطريف أن نتذكر أن تكنولوجيا الكلكات القديمة قدر لها أن تلعب دوراً في العصر الحديث عندما قرر السلطان عبد الحميد ربط آسيا بأوروبا بجسر متحرك عبر مضيق البسفور. بيد أن حتى المهندسين الأوروبيين ترددوا في القيام بمثل هذا المشروع. ولكن بعض العارفين ذكروا له أن أهل العراق كثيراً ما قاموا بمثل هذا العمل في إقامة الجسور المتحركة على أنهرهم. فكتب إلى والي بغداد في الأمر. ولدى الاستفسار تقدم كل من السيد خطاب العمر التكريتي وأخيه عبد الله العمر التكريتي. قالا: نحن نستطيع القيام بذلك. فبعثهما إلى إسطنبول. وبعد أن شرحا للسلطان شيئا عن تكنولوجيا الكلكات وأقنعوه بها، أمر السلطان بذبح ما يكفي من الغنم والماعز للحصول على كمية الجلود اللازمة.
وما هي إلا أشهر قليلة حتى استطاع هذان العراقيان تركيب ذلك الكلك الكبير الذي ربط آسيا بأوروبا. ثم فرشوا السجاد على امتداده لعبور السلطان وافتتاحه للجسر الذي انبهر به الأوروبيون، فيما كانت موسيقى الجيش تعزف تحت الأعلام والرايات ومعالم الزينة والافتخار. ثم أقام الباب العالي مأدبة كبيرة لتكريم هذين الرجلين اللذين أجلسهما السلطان على يمينه وشماله بعد أن قدم لكل منهما وسام الاستحقاق الذي حمل هذه الكلمات: «صداقت – حميت – غيرت». وقضى السلطان بإصدار فرمان يقضي بتسلم كل واحد منهما راتباً شهرياً مدى الحياة بمقدار ليرة واحدة في الشهر.
ثم جرى توديع هذين الكلكيين من إسطنبول في حفل مهيب أشاد فيه الخطباء بالعراق والعراقيين وحضارتهم الخالدة. وتقابل ذلك مع احتفال مشابه في بغداد لاستقبالهما بين زغاريد النساء التكريتيات وموسيقى الطبول والزمارات. وأصبح مقهى الجعيفر مزدحماً حولهما لعدة أشهر يستمعون خلالها لحكاياتهما عن إسطنبول وقصور السلطان. وظل الوسامان يتنقلان من يد ليد يتفرج عليهما الحاضرون بإعجاب: صداقت – حميت – غيرت.