د. محمود محيي الدين
المبعوث الخاص للأمم المتحدة لأجندة التمويل 2030. شغل وظيفة النائب الأول لرئيس البنك الدولي لأجندة التنمية لعام 2030، كان وزيراً للاستثمار في مصر، وشغل منصب المدير المنتدب للبنك الدولي. حاصل على الدكتوراه في اقتصادات التمويل من جامعة ووريك البريطانية وماجستير من جامعة يورك.
TT

الرقيب الحصيف في العصر الرقمي

رغم كثرة التحصينات التي أُقيمت على مدار عشر سنوات في أعقاب الأزمة المالية العالمية، لا يمكن الجزم بأن القطاع المالي قد تجاوز تحديات تواجه استقراره، أو أنه أصبح أكثر قدرة على القيام بدوره الأصيل في تعبئة المدخرات وتمويل الاستثمارات ودفع النمو. ولم يتم الاهتداء بعد إلى المزيج الأمثل بين سلطة الرقابة وقوى السوق حتى تقوم المؤسسات المالية، خصوصاً البنوك، بأنشطتها بكفاءة دون اضطرابات أو أزمات. ويبدو أن معضلة الزعيم الفرنسي شارل ديغول، لم تجد لها حلاً عملياً يحقق التوازن المرغوب. فقد ذكر ديغول منذ ما يقرب من ستين عاماً في خطاب لوزيره ورجل الدولة المثقف الذي كان محل ثقته آلان بيرفيت أن «السوق لديها بعض الجوانب الجيدة؛ فهي تجعل الناس كأنهم على أطراف أصابعهم وتجزي الأفضل منهم، ولكنها في الوقت ذاته تتسبب في مظالم وتقيم احتكارات وتحابي الغشاشين. لذا، علينا ألا نغض الطرف عن السوق وألا نتخيل أبداً أن السوق وحدها يمكنها حل المشكلات؛ فالسوق ليست فوق الأمة وليست أعلى من الدولة».
وقد أظهر التقرير الأخير للتنمية المالية العالمية، الذي صدر الشهر الماضي، أن هناك أموراً حرجة تعكس هذا التوتر بين قوى السوق والرغبة في دعم كفاءتها من ناحية، ودور سلطات الرقابة ومحاولات الارتقاء بفاعليتها من ناحية أخرى. وهناك ضرورة للتصدي لهذه الأمور قبل تفاقمها فتسفر عن أزمة جديدة. يتعلق الأمر الأول بكيفية المواءمة بين دوافع القطاع الخاص والمصلحة العامة؛ فهل يمكن للرقابة المالية الحصيفة أن توجه قوى السوق وتحتويها حتى تسيطر على الإفراط في المخاطرة؟ وماذا أعدت سلطات الرقابة المالية من نظم تتيح المعلومات بكفاءة للمدخرين والمستثمرين والمؤسسات العاملة في الأسواق وعموم الناس؟ وماذا جهّزت من شبكات للحماية والضمانات؟ أم تراها اكتفت في أحوال كثيرة باستصدار تشريعات جديدة تزيد من صلاحياتها وتميزها بما تباهي به الأجهزة البيروقراطية الأخرى؟
الأمر الثاني، يذكّرنا بأنه على الرغم من أن تشريعات وإجراءات ما بعد الأزمة المالية قد استهدفت السيطرة على البنوك والمؤسسات المالية الكبرى بألا تجعلها متفردة بمزايا تُمنح لها حتى لا تتعثر أو تفلس، فإن هذه النوعية من المؤسسات المالية ازدادت حجماً وتعقيداً في أنشطتها وارتفع نصيبها من الأصول المالية عالمياً، وأصبحت، قسراً، أكبر من السقوط، فبها تتعلق الأسواق. كما أن نظم التأمين ضد مخاطر هذه المؤسسات توسعت وازدادت سخاءً، في الوقت الذي لم تتحسن فيه نظم إفصاحها، بما أضعف من فاعلية قواعد السوق في ضبط سلوك وأداء البنوك والمؤسسات المالية.
الأمر الثالث، يتعلق بقواعد بازل الأخيرة المعنية بتحديد وتصنيف رؤوس أموال البنوك بما يرفع من حجمها ونوعيتها، وبالفعل ارتفعت المؤشرات الرقابية لرؤوس الأموال. لكن بتحليل بيانات 20 ألف بنك في 158 دولة ظهر أن تحسن هذه المؤشرات يرجع إلى دفع الأصول للتركز فيما هو أقل وزناً من حيث المخاطر تكيفاً مع متطلبات الرقابة وهو ما قد يختلف مع واقع الممارسة، بما يتطلب تدعيماً لجودة الإشراف والفحص والإفصاح.
خلاصة التقرير إذن، أنه بعد عشر سنوات من الأزمة المالية العالمية أمست قواعد الرقابة المالية أكثر تعقيداً بما يهدد الشفافية، ويزيد من التباين والاختلاف بين البلدان وقطاعاتها المالية فيما يتعلق بنوعية الإشراف ومدى الانضباط. ويلقي هذا كله بأعباء كبيرة على سلطات الإشراف المالي، خصوصاً مع نزعة بعض أنواع التدفقات المالية للجوء إلى ملاذات أكثر رخاوة وتساهلاً، بما في ذلك من عواقب على الاستقرار المالي والإضرار بحقوق المدخرين والمستثمرين.
ومن الملاحَظ أنه في بلدان عربية لا يشعر كثير من الناس بمؤسسات المال ودورها إلا عند الأزمات، فهم مَن يتحملون في النهاية، من خلال الموازنات العامة لدولهم، تَبِعَة إقالتها من عثراتها وتكاليف تسوية قروضها السيئة وتطهير محافظها المالية المعتلة، ورفع رؤوس أموالها، خصوصاً إذا ما كانت مملوكة للدولة. هذا رغم أن المنطقة العربية هي أقل الأقاليم في مؤشرات الشمول المالي، إذ يملك 52% فقط من المواطنين حساباً مصرفياً مقابل 63% كمتوسط في الدول النامية في عام 2017. كما أن المدفوعات الرقمية من خلال الهواتف المحمولة لم تتجاوز 33% في البلدان العربية مقابل 44% في الدول النامية و91% بالدول الأعلى دخلاً. لعل الاهتمام ببرامج الشمول المالي خلال العامين الماضيين يحسّن من هذه المؤشرات نسبياً. ولكنّ جهداً أكبر لا بد أن يُبذل حتى تتحسن مؤشرات الادخار المتدنية ومعدلات إسهام القطاع المالي في تمويل الاستثمارات، وهو أمر يتجاوز قدرات وصلاحيات المؤسسات المالية وجهات الرقابة عليها ويتطلب سياسات عامة عالية التنسيق والكفاءة في التنفيذ.
وبافتراض وجود سياسة عامة للتمويل ترتبط ببرامج متكاملة لتحقيق أهداف التنمية المستدامة، جدير بالرقيب الحصيف أن يتحرى ما يأتي:
• إنعاش الذاكرة بأسباب وآثار الأزمات المالية السابقة لمنع تكرارها.
• الاستعداد للأزمة القادمة بأدوات وتدابير جديدة، فالتقنية المالية تحتاج إلى تقنية رقابية، ومتطلبات العصر الرقمي والذكاء الصناعي والتعامل مع قواعد البيانات الكبرى تتجاوز معدات العصور السالفة، وإن تشبث بها التقليديون.
• على غرار منهج أوتو فون بسمارك، رجل الدولة الألماني الفذ، في التعامل مع الثورات، فإذا ما كانت هناك ثورة في تكنولوجيا المعلومات ومستحدثاتها، كما هو ظاهر للعيان الآن، فالأفضل المشاركة في صنعها والاستفادة منها بدلاً من المعاناة منها. وهي في تقديري الفلسفة التي استند إليها تقرير مستقبل التمويل الذي تم إعداده مؤخراً لبنك إنجلترا، أحد أقدم البنوك المركزية في العالم. ويشتمل هذا المنهج على ثلاثة مكونات رئيسية تتمثل في: وضع برنامج شامل لنظم الدفع الجديدة وتطويرها وتأمينها لخدمة الاقتصاد الرقمي؛ ومساندة التحولات المهمة في المعايير الدولية والتعاون مع الأسواق البازغة وتدعيم مراكز الخدمات المالية والتعامل مع متطلبات تغيرات المناخ وتطورات التركيبة العمرية للسكان؛ وزيادة قدرات التوقي من المخاطر الجديدة الناجمة عن مربكات تؤثر على قطاع الأعمال أو النشاط الاقتصادي بتحديث النظم الرقابية والإشرافية وتأمين نظم المعلومات وقواعد البيانات وأساليب تداولها.
• هناك دور حيوي للمؤسسات المالية في توطين التنمية المستدامة في البلدان العربية النامية ومكافحة الفقر وعدم العدالة في توزيع الدخول، وذلك من خلال تمويل برامج النمو الشامل للجميع، والامتناع عن تمويل المشروعات الملوثة، مثل منتجات البلاستيك الضارة بالبيئة غير متكررة الاستخدام، وتقديم البرامج التمويلية المحفزة على تبني تقنيات متطورة ومناسبة كمشروعات الطاقة المتجددة. بالتمويل تدور محركات الاقتصاد ولكن ليس من السهل توقع زمن وكيفية حدوث أزماته لأن أنشطة التمويل تكتنفها المخاطر بطبيعتها. ودور الرقيب الحصيف أن يقلل من احتمالات تكرار الأزمات المالية وأن يحجّم من حدّتها وآثارها، وأن يكون سابقاً، أو على الأقل مواكباً، لا ملاحقاً لمستجدات التمويل وأسواقه وتطوراتها.