د. عبد الله الردادي
يحمل الردادي شهادة الدكتوراه في الإدارة المالية من بريطانيا، كاتب أسبوعي في الصفحة الاقتصادية في صحيفة الشرق الأوسط منذ عام ٢٠١٧، عمل في القطاعين الحكومي والخاص، وحضر ضيفا في عدد من الندوات الثقافية والمقابلات التلفزيونية
TT

السياسة والاقتصاد صنوان

دائماً ما كان الارتباط وثيقاً بين السياسة والاقتصاد، وهي علاقة ذات اتجاهين؛ فقد تؤثر السياسة سلباً أو إيجاباً على الاقتصاد، وقد يكون الاقتصاد عاملاً مهماً في تغير الاتجاه السياسي. ويبدو هذا الارتباط في أوضح حالاته في العلاقات الثنائية بين البلدين، فأكبر علاقة اقتصادية وتجارية بين بلدين في وقتنا الحالي هي التي بين الولايات المتحدة والصين، وثانيها بين الولايات المتحدة وكندا. والمتأمل في أحداث العامين الأخيرين يرى التأثير السلبي لسياسة الولايات المتحدة على هذه العلاقة. وهنا تتجلى فائدة الجهود السياسية في تحسين هذه العلاقات فيما فيه مصلحة لشعوب البلدان. ولعل المثال الإيجابي على جدوى هذه الجهود وقوة تأثيرها يتضح في العلاقة بين اليابان والصين.
فالحروب التاريخية بين الصين واليابان لا يمكن نسيانها، وهي حروب تمتد لقرون، راح ضحايا لها مئات الألوف، واستمرت القطيعة بين البلدين لوقت طويل، حتى عادت العلاقات السياسية بينهما في عام 1972م. وبعد هذا التاريخ بخمس سنوات، حصلت أول شركة يابانية على تصريح يمكّنها من العمل على الأراضي الصينية، وهي شركة «ماياكوشي» المتخصصة في صنع أشرطة «الكاسيت» الممغنطة. وخلال أربعة عقود، وحتى عام 2018، زاد عدد الشركات اليابانية العاملة في الصين على 32 ألف شركة، باستثمارات تفوق 117 مليار دولار، بل إن عام 2018 وحده شهد استثمارات يابانية في الصين تزيد على 11 مليار دولار. واليوم تُعدّ العلاقة التجارية بين البلدين، ثالث أكبر علاقة ثنائية تجارية في العالم بعد المذكورتين سالفاً، وبين ثاني وثالث أكبر اقتصادين في العالم.
ومنذ بدء العلاقة الدبلوماسية، أدرك البلدان أنهما في حاجة إلى بعضهما، خصوصاً في التسعينات الميلادية، حيث شكّلت السوق الصينية الضخمة أهمية لليابان مكنتها من الخروج من أزمتها الاقتصادية آنذاك. بينما استطاعت الصين الاستفادة من علاقتها مع اليابان من خلال نقلها التقنيات اليابانية للصين، وتمكُّنها من اللحاق بالسباق التقني. ولم تكن العلاقة طوال هذه المدة علاقة وردية، بل تخللتها كثير من المنغصات، ففي عام 2005، أجرت اليابان تعديلاً في أحد كتبها التاريخية، فَهِم الصينيون منه تخفيفاً لما يرونه جرائم حرب لإمبراطور ياباني سابق، قام بعده الصينيون بمقاطعة البضائع اليابانية. وفي عام 2011، تجدد النزاع بين البلدين بخصوص جزيرة سينكاكو، التي تقع تحت حكم اليابانيين، ويرى الصينيون أنها من حقهم، وتسبب هذا النزاع بعدها بأعمال شغب بالصين نتج عنها إحراق معارض سيارات شركات يابانية، مثل «هوندا» و«تويوتا»، وإحراق مصنع «باناسونيك» الياباني. إلا أن الجهود السياسية لم تقف بين البلدين، توّجتها زيارة رئيس الوزراء الياباني للصين، العام الماضي، التي نتج عنها توقيع أكثر من 500 صفقة بقيمة تتجاوز 18 مليار دولار. لتصبح العلاقة بين البلدين في الوقت الحالي أفضل من أي وقت مضى.
أما في الجانب السلبي، فيتضح أثر هذه العلاقة بين الهند وباكستان، التي لم تفلح الجهود السياسية في الوصول إلى حل في النزاعات بين الجارتين. ففي منتصف القرن الماضي، كانت نسبة التبادل التجاري لباكستان مع الهند تزيد على 70 في المائة، وكانت 63 في المائة من صادرات الهند تذهب إلى باكستان. إلا أن الأزمات السياسية بين البلدين تسببت في انخفاض هذا التبادل التجاري ليقلّ عن ملياري دولار فقط، وهو ما نسبته أقل من 1 في المائة من الناتج القومي الهندي. وطوال هذه السنوات، حاول البلدان عقد اتفاقيات تجارية تسهّل التبادل التجاري بينهما، وهو ما فيه مصلحة واضحة لكلا الطرفين، إلا أن المشاكل المستمرة كانت تؤدي بهذه الاتفاقيات إلى الفشل. وكذلك الأمر بين دول آسيوية عدة، مثل اليابان وكوريا، وتايلاند وكمبوديا. وتوضح إحدى الدراسات أن قارة آسيا، وحتى مع كونها تشكل ثلث صادرات العالم وثلث واردته، فإن بإمكانها أن تشكل أكثر من ذلك بكثير لولا الخلافات السياسية بينها.
إن التعاون الاقتصادي بين البلدان مفتاحٌ لرفاهية شعوبها، وما يحدث الآن بين الصين واليابان دليل على ذلك، فالقرب الجغرافي بينهما، إضافة إلى الرغبة الصريحة في التعاون، أضاف الكثير لاقتصاد البلدين، ليس على نطاق التبادل التجاري فحسب، بل حتى على نطاق الاستثمار الأجنبي، وانخفاض التكلفة على المستهلك النهائي، وتوفر الوظائف في البلدين. ولم تكن اليابان لتتجاوز أزمتها الاقتصادية في التسعينات لولا التعاون الاقتصادي مع الصين، وكذلك لم تكن الصين لتحصل على كثير من تقنيتها التصنيعية لولا قربها السياسي من اليابان. ولولا تجاوزهما الأزمة السياسية التي سببتها كثير من الحروب والدماء، لما كان لهما أن تصبحا كما هما اليوم.