نوح سميث
كاتب في «بلومبيرغ»
TT

نقاد الاقتصاد يخوضون حرباً منتهية

نشهد في كل عام نقدا لاذعا لمهنة الاقتصاد في مختلف أرجاء الصحافة العامة. وقصة العام الجاري ظهرت في مقالة افتتاحية كتبها عالم الإنسانيات ديفيد غرايبر في مجلة نيويورك ريفيو أوف ذي بوكس. وعلى غرار الكثير من المقالات السابقة، هناك بعض الأمور الصحيحة في مقال السيد غرايبر مع الكثير من الأمور المجانبة للصواب بشأن إخفاقات الاقتصاد ودوره في العالم الحديث.
ومثله مثل العديد من أقرانه النقاد، يركز السيد غرايبر مقالته بالكامل تقريبا حول فرع واحد فقط من فروع الاقتصاد – نظرية دورة الأعمال – تلك التي تحتل مكانا صغيرا للغاية من عالم الاقتصاد الواسع للغاية. وعمود واحد لن يتسع لسرد قائمة مطولة بكافة الموضوعات الأخرى التي يدرسها خبراء الاقتصاد، ولكنها تتضمن أمورا مثل عدم المساواة، والتنقل الاقتصادي، وسياسات الأجور، والضرائب، والنقابات، والصحة، والتعليم، والفقر، والتنمية الاقتصادية، والعرق، والنوع، فضلا عن مجموعة هائلة من الموضوعات الأخرى التي تحمل أهمية خاصة لحيوات الناس ومعايشهم. وتجاهل مثل هذه الأمور المهمة كما يفعل السيد غرايبر مع الإعلان عن أن الاقتصاد لم يعد مناسبا لتلبية الأغراض المقصودة من ورائه بسبب أوجه القصور الواضحة في نظرية دورة الأعمال يشبه تماما الإعلان عن أن علم الأحياء لا قيمة له تماما بسبب الفشل الطبي المستمر في علاج مرض السرطان والقضاء عليه.
وهذا من أحد الأسباب التي تجعل العبارات التالية بعيدة الارتباط عن أرض الواقع بصورة يائسة:
لا يزال علماء الاقتصاد يدرسون لطلابهم أن الدور الأساسي للاقتصاد الحكومي – ويصر الكثيرون على أن ذلك هو الدور الاقتصادي الوحيد الحقيقي والصحيح – هو ضمان استقرار الأسعار.
وبمقولته تلك، يشطب السيد غرايبر مجال الاقتصاد العام بأكمله بجرة قلم، وهو المجال المعني بدراسة السياسات الحكومية. ولكن حتى فيما يتعلق بنظرية دورة الأعمال، فإن تأكيداته يجانبها الصواب تماما. فإن نماذج الاقتصاد الكلي الشائعة غير معنية فقط بالتضخم، بل إنها تركز في الوقت نفسه على تحقيق التوازن بين استقرار الأسعار والإنتاج الاقتصادي. ووفقا لهذه النماذج، المستعان بها حاليا لدى البنوك المركزية في كافة أرجاء العالم، فإن أحد الأدوار الأساسية للحكومة يكمن في الحيلولة دون ارتفاع معدلات البطالة.
ولقد شهدنا ذلك قبل عقد كامل من الزمان، عندما بذل محافظو البنوك المركزية الدولية الجهود الكبيرة لخفض معدلات البطالة عن طريق خفض أسعار الفائدة إلى المستوى الصفري أو ما أدناه مع إطلاق العنان للتسهيلات الكمية الهائلة. ولقد فعلوا ذلك على الرغم من التحذيرات القاسية من أن التسهيلات النقدية الكبيرة سوف تؤدي إلى ارتفاع التضخم. وقد يقول البعض أن ذلك كان بمثابة الإجراء السريع والحاسم من جانبهم الذي حال دون تكرار كارثة الكساد الكبير.
ويصح القول، على غرار السيد غرايبر، أن خبراء الاقتصاد لا يفهمون التضخم بصورة سليمة وراسخة. فأولئك الذين توقعوا ارتفاعا كبيرا في الأسعار نتيجة للتسهيلات الكمية كانت توقعاتهم في غير محلها تماما. وربما كان منحنى فيليبس، الذي يعكس المفاضلة بين البطالة والتضخم، متواجدا أو غير متواجد بالكلية. وهناك إجماع ضعيف في الآراء بشأن أسباب وقوع حالات نادرة ولكنها مدمرة من التضخم المفرط. مثل ذلك النوع الذي يواصل إفقار وتدمير شعب فنزويلا في الآونة الراهنة.
ويقضي السيد غاريبر وقتا مطولا في ازدراء النظرية الكمية للنقود، وهي الفكرة البسيطة التي عفا عليها الزمن والتي حازت نصيبها من الزخم إبان ارتفاع معدلات التضخم في سبعينات القرن العشرين. ولقد حاول محافظو البنوك المركزية السيطرة على المعروض من النقود في الفترة بين عام 1979 إلى عام 1982، غير أنهم تخلوا عن مواصلة بذل تلك الجهود عندما اكتشفوا أن الأمور خرجت عن زمام السيطرة. وفي الوقت الحاضر، صاروا يستهدفون السيطرة على أسعار الفائدة بدلا من ذلك، فضلا عن استخدام الأدوات غير التقليدية في السيطرة مثل التسهيلات الكمية. ولم يستشعر بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي إلا النذر اليسير من وخزات الضمير بشأن توسيع الميزانية بسكل كبير – الأمر الذي يستلزم ضخ المزيد من الأموال في الاقتصاد – وذلك خلال فترة الكساد الكبير.

وهناك أمر واحد فقط يعد السيد غرايبر محق بشأنه: تمثل نظرية دورة الأعمال الحالية السقيفة المليئة بالأدوات المعطلة. إذ أن الكثير من الافتراضات المتضمنة في أغلب نماذج الاقتصاد الكلي إما أنها خاطئة أو خارج نطاق الاحتمالات إلى حد كبير. يقيد هذا من استخدام نماذج الاقتصاد الكلي بدرجة كبيرة في ظل الأزمات، وكانت سياسة التسهيلات الكمية مرتجلة بشكل واضح، وكانت بمثابة سياسة قائمة على الحدس والخبرة بأكثر من التخطيط والدراسة، ورجع العديد من محافظي البنوك المركزية إلى اعتماد النماذج الأقدم والأبسط مع حلول وقت الأزمة. يبتعد خبراء الاقتصاد الكلي كل البعد عن الفهم العام لكيفيات عمل الركود والتضخم، ويعاود العديد من العلماء الشبان إلى لوحات الكتابة الحائطية لمدارسة التفاصيل الدقيقة حول كيفية تصرف العملاء وسلوكيات الشركات على أمل الخروج في يوم من الأيام بنظرية أفضل.
ولكن في الآونة الراهنة، يبدو أن السيد غرايبر وحفنة معتبرة من المثقفين يصطفون لانتقاد والتنديد بالاقتصاد مع توافر النذر اليسير لديهم من البدائل المستحقة للثقة.
*بالاتفاق مع بلومبرغ