خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

الحرة لا تأكل بثدييها

من الأمثال الفصحى القديمة التي تسربت إلى اللغة الدارجة قول العامة «تجوع الحرة ولا تأكل بثديها». والمعنى هو أن المرأة الفاضلة لا ترتضي رخاء العيش والثروة من وراء تسخير جسمها سواء بالحلال أو الحرام.
يعود أصل المثل إلى حكاية الحارث بن سليل الأسدي وكان ذا مال وجاه وسؤدد. وقصد في أواخر حياته بيت صديقه وحليفه علقمة بن خصفة الطائي. وأقام عنده لعدد من الأيام لمح خلالها الزباء بنت علقمة وأسره حسنها وبهاؤها فقصد والدها طالباً خطبتها وقال: أتيتك خاطباً. وقد ينكح الخاطب ويدرك الطالب ويمنح الراغب. أجابه علقمة بما يطيب خاطره ووعده خيراً: «أنت كفؤ كريم يقبل منك الصفو ويؤخذ منك العفو. فأقم ننظر في أمرك».
ثم ذهب علقمة الطائي فحدث امرأته بما أراد صاحبه وراحت الأم بدورها لتكلم ابنتها فقالت لها: أي الرجال أحب إليك؟ الكهل الجحجاح، الواصل المنّاح، أم الفتى الوضاح؟ قالت: لا بل الفتى الوضاح. قالت إن الفتى يغيرك والشيخ يميرك. وليس الكهل الفاضل الكثير النائل كالحديث السن الكثير المن. فأجابتها، يا أماه، إن الفتاة تحب الفتى حب الراعي لأنيق الكلا. قالت يا بنيتي إن الفتى شديد الحجاب، كثير العتاب. فأجابتها: «إن الشيخ يبلي شبابي ويدنس ثيابي ويشمت بي أترابي».
بيد أن أمها غلبتها في آخر الأمر وزوجتها للحارث على مهر كبير فرحل بها إلى قومه. وجاء يوم أقبل فيه شباب من بني أسد وراءهم الزباء. فتنفست صعداء وانفجرت بالبكاء. فقال لها الحارث: «ما يبكيك؟»، قالت: ما لي للشيوخ الناهضين كالفروخ؟ فقال لها: ثكلتك أمك. تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها.
وبعد أن أدرك الحارث أن زواجه بها لم يكن إلا لحاجتها وحاجة أهلها. أمر فألحقها بأهلها وأنشد فقال:
تهزأت إن رأتني لابسا كبرا
وغاية الناس بين الموت والكبر
فإن بقيت رأت الِشيب راغمة
وفي التعرف ما يمضي من العمر
عني إليك فإني لا توافقني
عور الكلام ولا شرب على كدر
حكاية الحارث والزباء حلقة صغيرة واحدة من مئات الحكايات التي قيلت بصدد الزواج غير المتوازن ولا المنسجم مما ينتج غالباً من تفاوت الأعمار. وهو موضوع التفت حوله ثروة كبيرة من التراث الشعبي والأدبي في شتى أجزاء العالم. من أصدق الكلمات في هذا الصدد قول فرنسس بيكن، الأديب والمفكر الإنجليزي: الزوجة عشيقة للشباب وزميلة للكهل وممرضة للشيخ العجوز. وللألمان مثل سائر وساخر: «الموت يضحك عندما يسمع بزواج رجل عجوز!».
ومع ذلك فلدينا في تراثنا الشعبي كثير من الأمثال التي تصرح بنقيض ذلك، ففي بلاد الشام يقول العارفون: شايب يدللني ولا شاب يبهذلني. إنها من دون شك الروح العملية لأبناء تلك المنطقة. وبعض العرب يحثون الناس على تزويج بناتهم فيقولون: قرد عود (عجوز) ولا قعود!b