داود الفرحان
حاصل على بكالوريوس الصحافة من جامعة بغداد عام 1968. نائب نقيب الصحافيين العراقيين لثلاث دورات، الأمين العام المساعد لاتحاد الصحافيين العرب. مدير «مركز المعلومات والبحوث» في وزارة الثقافة والإعلام العراقية. معاون المدير العام لوكالة الأنباء العراقية. المستشار الإعلامي للسفارة العراقية في القاهرة (1989 - 1990). كاتب عمود صحافي في الصحف العراقية منذ عام 1966، وكاتب عمود في مجلات: «المجلة» السعودية، و«الأهرام العربي»، و«الصدى» الإماراتية، و«اليمامة» السعودية، و«التضامن» اللندنية. رئيس تحرير صحف ومجلات عراقية أسبوعية عدة ومؤلف لعدد من الكتب.
TT

الاحتجاجات العراقية بين باقة وعود ومخازن رصاص

في بغداد، رفع المتظاهرون العراقيون شعار «شلع قلع»، وهو يعني «اجتثاث» السلطة القائمة في المنطقة الخضراء. وفي بيروت، رفع المتظاهرون اللبنانيون شعار «كلن يعني كلن»، أي إسقاط السلطة القائمة كلها.
هل كان سعد الحريري أشجع وأكثر واقعية من عادل عبد المهدي، فقدم استقالته إلى الرئيس ميشال عون أمام كاميرات التلفزيون؟ كان التوصيف الذي لاحق رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي منذ تصدر المشهد السياسي مع غيره من الوجوه الجديدة بعد 2003 وحتى اليوم؛ هو «الرجل الذي يحمل استقالته في جيبه»! لكنه حين وصل إلى النقطة في آخر السطر، رفض أن يستل استقالته من جيبه ويقدمها لرئيس الجمهورية كما فعل الحريري، وكما فعلت قبله تيريزا ماي رئيسة وزراء بريطانيا. ولعبد المهدي سابقة حُسبت له حين قدم استقالته من منصب وزير النفط، وكررها حين قدم استقالته من منصب نائب رئيس الجمهورية. وفي الحالتين هاتين، خسر عبد المهدي المنصب ولم يخسر نفسه. والدليل على صحة الجملة السابقة أن العملية السياسية حين واجهت الجدار في تسمية رئيس جديد لمجلس الوزراء بعد انتهاء ولاية حيدر العبادي، استدار السياسيون إلى «الرجل الذي يحمل استقالته في جيبه»، وكلفوه بالمهمة قبل عام مضى. وهو عام لم يستطع فيه عادل عبد المهدي أن يقدم فيه إنجازاً واحداً إلا رفع الحواجز الكونكريتية في شوارع بغداد، وبضمنها المنطقة الخضراء. كان يستخدم كثيراً حرف «السين»: سنقوم، سنفعل، سنبني، سنقدم، سنضع حدّاً، سنضرب بيد من حديد على الفساد. كان الشعب العراقي سيحمد الله ويشكر عادل عبد المهدي لو أنه نفَّذ تهديده وضرب بيد من أي معدن على الفساد الموروث منذ سنوات نوري المالكي. إلا أنه بدلاً من ذلك ضرب بعبوات الغاز المسيِّل للدموع رؤوس فتيان وشبان وشابات في عمر أحفاده؛ كانوا يرفعون شعارات إسقاط الفساد، ويريدون استرداد وطنهم المحتل من قبل الميليشيات الإيرانية، وفي مقدمتها «الحرس الثوري»، بقيادة قاسم سليماني الذي تجاوز كثيراً في دوره الراهن في العراق صلاحيات المندوب السامي البريطاني في بغداد بيرسي كوكس في أواخر القرن التاسع عشر، والحاكم المدني الأميركي بول بريمر في الغزو الأميركي للعراق عام 2003.
وسواء كان رئيس الوزراء مسؤولاً عن مقتل المئات وجرح واعتقال الآلاف في أنحاء العراق خلال شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، أو أن ميليشيات منفلتة وإيرانيين متسللين، وقوات أمنية جامحة هي المسؤولة عن العنف الذي لم يسبق له مثيل، فإن عبد المهدي يتحمل مسؤولية العنف والقسوة المفرطة والأيام الدامية؛ باعتباره القائد العام للقوات المسلحة التي تنضوي تحت توصيفها عشرات التشكيلات العسكرية والأمنية، والميليشياوية الموالية لإيران، تحت لافتة «الحشد الشعبي». ولا يشفع لرئيس الوزراء أنه أدان أكثر من مرة عمليات القنص التي أودت بأرواح مئات المحتجين من الشباب العاطل والطلبة والباعة المتجولين. فمهمة القائد العام ليست الإدانة والشجب والاستنكار؛ وإنما ردع المجرمين من قناصة ورماة القنابل المسيلة للدموع الذين كانوا يتعمدون أن تكون رؤوس وصدور المتظاهرين هي الهدف. نحن هنا لا نستطيع أن نساوي بين القاتل المدجج بالسلاح والقتيل الأعزل؛ حتى من كمامة تحمي أنفه وصدره من سموم الغازات الفتاكة.
ما حدث في ساحة التحرير في بغداد والساحات الأخرى في مدن الوسط والجنوب، هو تطبيق عملي لما فعلته قوات «الباسيج» في شوارع طهران والمحمرة، من قنص الناشطين والناشطات وإرهاب الجموع التي تطالب بحقوقها المسلوبة من قبل حكومات ما بعد 2003.
هل لاحظتم أن مشاهد القسوة والعنف والاغتيالات تتكرر بالطريقة نفسها، سواء في شوارع طهران أو بيروت أو بغداد أو البصرة أو كربلاء؟ قتلة من منتسبي الميليشيات الموالية للولي الفقيه يرتدون ملابس سوداء وأقنعة، ويركبون دراجات نارية ومعهم مسدسات عادية أو كاتمة للصوت. كانت بنادق القناصة في بغداد علنية وفوق أسطح العمارات المطلة على ميادين التظاهر، وهي بنادق ليست عادية؛ فكلها من النوع الذي تستورده الأجهزة القمعية الحكومية بمناظير دقيقة وتقنية عالية ولا تخطئ الهدف. أما القنابل المسيلة للدموع فحكايتها في المظاهرات العراقية لم يسبق لها مثيل على أيدي قوات مكافحة «الشعب» وليس الشغب. وذكرت منظمة العفو الدولية، في تقرير حديث، أن هذه القنابل مصنوعة في بلغاريا وصربيا، ويبلغ وزنها عشرة أضعاف وزن عبوات الغاز المسيل للدموع التي تزن ما بين 25 إلى 50 غراماً، وهي تخترق الجماجم، ويخرج دخانها المسموم من أنوف الضحايا وعيونهم وآذانهم، كما شاهدنا في أفلام الفيديو التي تناقلها الناشطون على شبكات التواصل الاجتماعي في الأيام الأخيرة! منتهى الاحتراف في القسوة والإرهاب!
ويكاد يجمع المتظاهرون على أن مطلقي هذه القنابل ليسوا من أفراد الشرطة أو الجيش؛ لكنهم ملثمون يحملون الجنسية الإيرانية، كما تبين بعد إلقاء القبض على بعضهم.
استقال سعد الحريري وذهب إلى ساحات التظاهر في بيروت، بينما عادل عبد المهدي يضع شروطاً شبه تعجيزية لتقديم استقالته التي ما زالت في جيبه كما يقول. وهو يصرُّ على أن استقالته ستؤدي إلى فراغ سياسي في البلد! ماذا تسمي إذن ما هو حاصل اليوم؟ هل هناك حكومة تسيطر على البلد؟ الأرتال العسكرية الإيرانية تدخل الحدود الشرقية من مدينة خانقين، وفرض محافظ ديالى منع التجول في المحافظة لكي تمر هذه الأرتال بسلام إلى بغداد، والحكومة والميليشيات والأحزاب الموالية لإيران تردد حكاية «السيادة» كلما جاء ذكر الولايات المتحدة وبعض الدول العربية؛ لكنها لا تعترض على اختراق الحدود العراقية من قبل القوات الإيرانية؛ بل إن رئيس الوزراء نفسه أصدر أمراً إلى الجيش العراقي بالانسحاب من مدينة خانقين، وإحلال «الحشد الشعبي» مكانه زيادة في تأمين دخول الأرتال الإيرانية بلا جوازات سفر و«لا إحم ولا دستور»! أكثر من ذلك أن قاسم سليماني يترأس اجتماعات سياسية وأمنية وحشدية داخل المنطقة الخضراء لفض الاعتصامات الاحتجاجية بكل قوة.
على أي حال، المشكلة ليست في موعد تقديم عادل عبد المهدي استقالته؛ لكنها في إصرار وتصميم المتظاهرين الشباب على شعار «شلع قلع»، أي إسقاط النظام كله الذي رهن نفسه لخدمة أطماع النظام الإيراني الإرهابي. لم يعد لدى العراقيين وقت يضيعونه بين باقات وعود من قبل رئيس الوزراء أو رئيس الجمهورية، ومخازن رصاص، وقنابل القناصة والميليشيات الإيرانية، وقاسم سليماني الذي صار عنوانه شبه الدائم: بغداد – المنطقة الخضراء... وشكراً لساعي البريد!