إميل أمين
كاتب مصري
TT

أميركا والأرمن... الماضي التركي لا يموت

لا يمكن للحقيقة أن تتوارى إلى الأبد، يوماً ما ستُكشف، وحكماً ستُعرف من القاصي والداني، وبعض الحقائق كالخطايا التي تتحمل وزرها الأجيال، لا سيما المتعلقة منها بالكراهية والإبادة.
لا يمكن لتركيا أن تنكر إلى الأبد، حتى ولو حاولت إغلاق منافذ التاريخ، فهناك خلف الباب شهود وأضابير تحمل سهام الاتهامات، وتتطلع للقصاص، وإن كان أدبياً قبل أن يضحى عند لحظة بعينها مادياً.
خطوة مجلس النواب الأميركي الأخيرة الاعتراف رسمياً بـ«الإبادة الجماعية للأرمن»، بأكثرية 405 أصوات مقابل 11، حدثٌ جلل يحمل رسائل لتركيا – إردوغان، بأن أخطاء الحاضر، استدعت فتح دفاتر الماضي، وتحميله مع البقية الباقية، بتكاليف الجرائم التي ارتكبها الأسلاف منذ زمن السلطان الأحمر وصولاً إلى أوان إردوغان.
ظلت مذابح الأرمن وصمة عار تطارد الأتراك في صحوهم ومنامهم، لا سيما أنها حسب المراجع التاريخية والدوائر المعلوماتية الغربية خلّفت وراءها أكثر من مليون ونصف المليون أرمني، طُردوا من أراضيهم، وعانوا الجوع والتشرد والموت في الطريق إلى دول الملجأ والملاذ، والتي لم تكن سوى دول عربية فتحت أبوابها وأحضانها للفارّين من جحيم جمال باشا السفاح وأقرانه، أولئك الذين اغتصبوا النساء، وبقروا بطون الحوامل، وصلبوا الرجال على الطرقات.
تحاجج وزارة الخارجية التركية في بيان لها صدر سريعاً بعد تصويت مجلس النواب الأميركي بأن تلك الخطوة بلا معنى، وأن هذا الخطأ فادح وسيطرح تساؤلات على ضمير الشعب الأميركي الذي سيحاكم المسؤولين عنه.
هل لنا أن نتساءل عن حُمرة الخجل التي هربت من وجه العثمانيين الجدد، المنظّرين للأخلاق وأياديهم مخضّبة بالدماء، وقريباً سيثأر التاريخ لما ارتكبته أياديهم أمام محاكم الأمم وقضاة الشعوب؟
طوال عقود الحرب الباردة وبعدها بنحو عقدين تقريباً اهتم الناتو اهتماماً جماً بتركيا بوصفها قاعدة متقدمة في مواجهة الاتحاد السوفياتي، غير أن المواقف الأميركية والأوروبية الأخيرة، من جراء النهج التركي في المنطقة، ودعم الأتراك للإرهاب الأصولي، أفقدتها الكثير جداً من وزنها الاستراتيجي، وبات التساؤل على الألسنة: هل حان وقت طرد تركيا من حلف الناتو؟
شيء ما يتغير في الداخل الأميركي وبسرعة فائقة، ففي أبريل (نيسان) من عام 2017 خصص الرئيس دونالد ترمب، إعلاناً رسمياً للمذابح التي عانى منها الأرمن في شبه جزيرة الأناضول في عام 1915، وإن كان قد تجنّب تعريفها كإبادة جماعية، وفقاً للخط الذي تبعه آخر أربعة من أسلافه من أجل عدم إثارة استياء تركيا.
ديدن الأتراك منذ زمن هو الهجوم على المجموعات العرقية الضعيفة وغير القادرة على التصدي والتحدي لوحشيتهم التقليدية، ولعل ما جرى منهم تجاه الأكراد في الأسابيع الأخيرة، هو الذي دفع النواب الأميركيين، ديمقراطيين وجمهوريين، إلى اتخاذ القرار الأخير، ما يعني أن التيار السياسي العام في الداخل الأميركي مصمم على إعادة الحقوق لأصحابها، حتى وإن جرى الأمر على صعيد الموقف الأخلاقي.
ظلت قضية اعتراف الولايات المتحدة بأن ما حدث للأرمن بين عامي 1915 و1923 إبادة جماعية، محل جدل طويل في البلاد، وموضعاً لضغط مستمر، وحاول الكونغرس تمرير قرار مماثل عدة مرات خلال العقود الماضية، لكنّ تلك المحاولات لم تؤدِّ إلى الاعتراف بالإبادة الجماعية رسمياً، بسبب الضغوط التركية والإدارات الرئاسية المتعاقبة التي كانت تشعر بالقلق من عزل شريك في حلف الناتو.
يتذرع الجانب التركي في رفضه مثل هذا القرار بأنه سيعيق المصالحة بين الأتراك والأرمن، إلا أن هذا أمر يجانبه الصواب، وقد قال الحكماء من فقهاء القانون الدولي في أعقاب الحرب العالمية الثانية، إنه من دون عدالة لن يكون هناك سلام، ومن دون إقرار الحقوق التاريخية سوف تبقى النار تحت الرماد، وهي نيران تؤججها السياسات التركية الإردوغانية في الحال والاستقبال سواء مع الأرمن أو الأكراد.
تركيا قطعاً في مأزق حقيقي في الداخل الأميركي، بعد أن مرّر مجلس النواب قراراً يفرض عقوبات على تركيا بسبب عملياتها العسكرية في شمال سوريا، وتشمل العقوبات وزيري الدفاع والمالية والمؤسسات المالية التي تتعامل مع القوات العسكرية التركية، وتحظر بيع الأسلحة الأميركية للجيش التركي.
يستلفت النظر في التصويت الذي جرى في مجلس النواب، وجود دائرة أصولية راديكالية تتبع جماعة «الإخوان المسلمين»، تتمثل في النائبة الديمقراطية إلهان عمر، تلك التي رفضت التصويت على القرار بحجة أنه يجب الأخذ في الاعتبار أيضاً بشاعات تاريخية سابقة مثل تجارة الرقيق، وما حدث للسكان الأصليين في أميركا، الأمر الذي يجب أن ينبّه الجانب الأميركي بشأن وجود طابور خامس من «الإخوان» المرتبطين مباشرةً بتركيا وقطر داخل أعلى صفوف الدائرة السياسية الأميركية، وما يمكن أن يمثلوه من اختراق للنسيج المجتمعي الأميركي في كل الأوقات.
هل سيمضي مجلس الشيوخ ثم الرئيس في التصويت على نسخة مشابهة؟ أميركا في اختبار أخلاقي حقيقي.