جمعة بوكليب
كاتب ليبي؛ صحافي وقاص وروائي ومترجم. نشر مقالاته وقصصه القصيرة في الصحف الليبية والعربية منذ منتصف السبعينات. صدرت له مؤلفات عدة؛ في القصة القصيرة والمقالة، ورواية واحدة. عمل مستشاراً إعلامياً بالسفارة الليبية في لندن.
TT

مقابر جماعية محمولة

كنت أتصفح المواقع الليبية على الإنترنت، في محاولة أخرى، وليست أخيرة، بأمل العثور على خبر ينفض غبار الحزن عن نفسي، ويعيد إليها بعضاً من أمل افتقدته، لكن أخبار الحرب والقتل والدمار، حرصت على ألا تترك فراغاً ولو ضئيلاً ينفذ منه شعاع من أمل، الأمر الذي جعلني أتركها إلى مواقع إخبارية أخرى، حيث وفي خبر رئيسي، في أحدها، قرأت عن موت 39 شخصاً في بريطانيا، فكاد نبض قلبي يتوقف هلعاً، وتبادر إلى ذهني، للوهلة الأولى، أن عملاً إرهابياً وراء ذلك. لكني حين قرأت الخبر مفصلاً، وأدركت هول الجريمة المرتكبة، اقتنعت أن للإرهاب أشكالاً وأنواعاً كثيرة، وليس قِصراً على قيام متطرفين دينيين، أو سياسيين، بعمل مسلح يستهدف قتل أبرياء. بعد وقت قليل، تابعت على القنوات التلفازية البريطانية الخبر. وشاهدت رئيس الوزراء بوريس جونسون، وزعيم المعارضة جيرمي كوربين، ينددان، في جلسة بمجلس العموم، بالجريمة، ثم يعودان لاستئناف ما بينهما من جدل سياسي.
كان الوقت مساءً، وكانت لندن مستسلمة، كعادتها، لأمطار الخريف المضجرة، تمتلئ ميادينها وشوارعها بحركة المرور، وبالبشر من كل اللغات والأديان والجنسيات، غير آبهين بجدل الساسة تحت سقف البرلمان، ولا ملتفتين لمأزق «بريكست» وللانقسام الذي يفلق البلاد نصفين، وغير مبالين بانهمار المطر. وكانت القنوات التلفازية تنقل صوراً حيّة، مباشرة، من بلدة حدودية صغيرة اسمها جريز، لشاحنة بيضاء كبيرة، على شكل قبر جماعي، أو بالأحرى لقبر جماعي على شكل شاحنة بيضاء كبيرة، بداخله جثث لتسعة وثلاثين شخصاً، من لحم ودم وأحلام، مجهولي الهوية، قتلوا اختناقاً وبرداً، بعد أن دفعوا مقدماً ثمن قتلهم لمجرمين في تجارة أكثر ربحاً من الاتجار بالمخدرات، تسمى تهريب البشر.
في عام 2000، نقلت الأخبار حادثة موت 58 مواطناً صينياً من شدة البرد في شاحنة مبردة مخصصة لنقل الخضراوات من هولندا، كانت تنقلهم بهدف تهريبهم إلى بريطانيا، فدخلوها بلا أنفاس. وبعدها بسنوات قليلة، حملت الأخبار قصة جريمة لا تقل عنها بشاعة، وتسببت في مقتل 15 شخصاً بينهم أطفال، قدموا من أقاصي أفغانستان، هرباً من موت يتهددهم، واختاروا الهجرة إلى بريطانيا، ودفعوا حصيلة ما جمعوه من مال إلى مهربين، على أمل الفوز بحياة جديدة، فقبروا في شاحنة!
انشغال وسائل الإعلام بالجريمة المروعة، والمصير غير الإنساني الذي لاقاه أولئك الناس، سوف يشغلها، على الأكثر، ليوم أو يومين، ثم تسدل الستارة على الجريمة ومرتكبيها، وعلى الضحايا، وتستأنف عجلة الدنيا دورانها، ويهرول الصحافيون وراء قصة أخرى، أو مأساة أخرى، وتستأنف أمطار الخريف المضجرة هطولها، وتستحوذ على اهتمام الناس أخبار إضراب سائقي القطارات، وأخبار كرة القدم، وآخر فضائح النجوم والنجمات، وينشغل الساسة في مواصلة حروبهم الكلامية التي لا تنتهي، وتبدأ لندن وغيرها من المدن البريطانية بالاستعداد لأعياد الميلاد المجيد، وليس لأهالي الضحايا ولعائلاتهم سوى الصبر والسلوان.
يبدو أن الذاكرة البشرية مجبولة من طين النسيان، لكي يتمكن الكائن البشري من الوقوف بقدميه على أرض، يعرف بالتجربة والخبرة، أنها رخوة، ولكي يحافظ على توازنه نفسياً، ويواصل مسيرة حياته في عالم لا يختلف كثيراً في آلامه عن جحيم دانتي. ويبدو، كذلك، أن إشكالية الهجرة ستظل بمثابة صداع دائم، في الرؤوس وفي القلوب، يقلقنا، لكننا بدل أن نبحث عن دواء يقينا آلامه وإزعاجه، تعودنا عليه، كأمطار الخريف المضجرة، واخترنا تجاهله، على أمل أن يكفَّ، ذات يوم، من تلقاء نفسه!
كيف يمكن لبشر من لحم ودم ومشاعر أن ينسوا منظر تلك الشاحنة - الثلاجة، على شكل قبر جماعي، بداخلها جثث لبشر مثلهم، تجشموا عبء الترحال ومتاعب الدروب، على أمل أن يتمكنوا من عيش كريم، وحياة هانئة، ليقبروا في شاحنة - ثلاجة، في محطة وقوف شاحنات في بلدة حدودية، لم تحلم يوماً أن تردد وسائل الإعلام الدولية اسمها؟
وكيف يمكن لنا أن نغلق أعيننا على ما يحدث من هولٍ يقشعر منه الضمير الإنساني، ثم نهز أكتافنا، ونستأنف من جديد ما كنّا نفعله، وكأن ما حدث أمرٌ لا يستحق منّا الحزن، والتفكير للحظات لمحاولة إيجاد حل يحول بيننا وبين الموت اختناقاً، أو مجمدين في شاحنة، أو غرقى في أمواج بحر، أو عطشاً وجوعاً في وهاد صحراء قاسية، بحثاً عن حياة كريمة لنا ولأولادنا؟
إذا كان من حق الإنسان العيش كريماً، فلماذا لا يكون من حقّه كذلك، ضمنياً، الهجرة من بلد إلى آخر، ومن لغة وثقافة إلى أخرى؟ ولماذا لا يكون من حقه اختيار بقعة الأرض التي يشتهيها وطناً، ليكون مواطناً ومن أهم حقوقه ألا تدفعه الجدران التي تشيدها الحكومات كل يوم من الإلقاء بنفسه مضطراً بين أيادي مجرمين، لكي يموت بأحلامه، وطموحاته، مجمداً من البرد، ومختنقاً في شاحنة، في مدينة حدودية، صغيرة ومجهولة، وكل طموحه أن يعيش في سلام وطمأنينة، في منأى عن المجرمين، وألاّ يلتصق اسمه في سجلات الشرطة، وصفحات الإعلام، مرفوقاً بالموت؟