د. حسن أبو طالب
كاتب مصري، يكتب في «الشرق الأوسط» منذ 2019. يعمل حالياً مستشاراً بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، وعضو الهيئة الاستشارية العلمية للمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، مُحكم ومستشار أكاديمي في العديد من مراكز البحوث العربية والدولية، وكاتب صحافي في جريدة «الأهرام». عمل سابقاً رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة دار المعارف»، ورئيس تحرير «مجلة أكتوبر» الأسبوعية، ومدير «مركز الأهرام الإقليمي للصحافة»، ورئيس تحرير «التقرير الاستراتيجي العربي» الذي يصدره مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية، ونائب رئيس تحرير «الأهرام».
TT

حراك الجماهير الغاضب والبدائل «المرتبكة»

لم يعد الحراك الشعبي الغاضب قاصراً على بلداننا العربية، كما يجري في لبنان والجزائر والعراق، ومن قبل السودان؛ بل أصبح ظاهرة دولية تمتد من هونغ كونغ في أقصى شرق آسيا، إلى عمق أوروبا في إسبانيا، وتحديداً في إقليم كاتالونيا. الشائع أن نزول الجماهير إلى الشوارع له ثمن واحد، هو أن تُلبَّى مطالبها قبل أن تعود مرة أخرى إلى حياتها العادية. ويتوقف الأمر على طبيعة تلك المطالب وحدودها، وكيفية تنفيذها، والعائد المرجو منها.
في لحظات الغضب الجماهيري، تصعب التفرقة لدى المحتجين بين الأشخاص الحاكمين وبين نظام الحكم نفسه. وحين يشتد الحماس العام تعلو المطالب إلى حد السماء. بعض الشعارات تُطلق ويجري ترديدها من دون أن يدرك بعض مردديها أنها مطالب تفتح أبواب المجهول، ولا تنهي الأزمة؛ بل غالباً ما تفتح أبواب أزمة من نوع مختلف.
رغم اختلاف التفاصيل وتباين الشعارات التي يرفعها المحتجون بين بلد وآخر، هناك قواسم مشتركة، منها أولاً عدم الرضاء الممزوج بالغضب، والرغبة العارمة في التغيير الشامل والجذري، وهو ما يظهر في شعارات، مثل «إسقاط النظام»، كما في حراك لبنان الأخير، والعراق والسودان من قبل، و«التخلص من الرموز السياسية القديمة»، كما هو الحال في حراك الجزائر الممتد لمدة 35 أسبوعاً متتالياً.
وفي السياق ذاته، تبدو مطالب ترسيخ الديمقراطية والحريات في هونغ كونغ، شبيهة بمطلب إسقاط النظام، إذ تعني فعلياً ترسيخ التباعد بين نظامي الحكم في هونغ كونغ والصين الأم، والتملص من صيغة «بلد واحد ونظامين».
المطالبة بالانفصال عن الدولة، وهو المطلب الغالب على حراك مواطني إقليم كاتالونيا في إسبانيا، يمثل صورة أخرى من مطلب إسقاط النظام، والإطاحة به، ومن ثم البدء من نقطة جديدة، وهي الاستقلال.
ثانياً، ارتباط بداية الاحتجاج بحدث عابر، أو تغير ملموس، ولكنه يأتي أقل من توقعات الجماهير أو صادماً لها. فبداية الاحتجاجات في هونغ كونغ كانت لرفض قانون تسليم المجرمين للصين، ما اعتبرته الجماهير الغاضبة إضاعة لاستقلالية القضاء، وباباً لتدخلات بكين في الشأن الداخلي، ما يلغي عملياً مساحة الحريات التي يتمتعون بها، مقارنة بما عليه الحال في الصين الأم. في حالة لبنان شيء من هذا، فقد تحركت الجماهير رفضاً لقرار فرض رسوم شهرية على مستخدمي تطبيق «واتساب» الشهير، الذي ييسر تواصل الناس بكلفة محدودة للغاية. في الجزائر كانت البداية الصادمة هي قرار الرئيس السابق بوتفليقة الترشح لعهدة خامسة رغم أحواله الصحية المتدهورة، ما اعتبر مصادرة على احتمال التغيير من خلال الانتخابات الرئاسية التي كانت مقررة في أبريل (نيسان) الماضي، ومن ثم خرجت الجموع لترفض هذه العهدة المحتملة، ونادت بالتغيير الجذري. وخروج السودانيين في ديسمبر (كانون الأول) الماضي لرفض ترشح الرئيس السابق البشير، حالة أخرى. في إسبانيا جاء الحدث العابر في صورة صدور أحكام قضائية قاسية في حق الزعماء المحليين المنادين بالانفصال، ما دفع الجماهير إلى الخروج لرفض الأحكام، واستعادة المطالبة بالانفصال.
ثالثاً، استمرار الاحتجاجات مع رفع سقف المطالب، فمع نزول المواطنين إلى الشوارع تبدأ فعلياً عملية رفع المطالب، وعدم الاكتفاء بالسبب المباشر لتدافع الناس إلى الشوارع، والسر يكمن في وجود تراكمات صبر عليها الناس من قبل، فالعراقيون الذين ثاروا على غلاء الأسعار، وتغلغل الفساد، وسطوة إيران على الأداء الحكومي، وضعف الأمن، واختفاء الوظائف وفرص العمل، بدأت مطالبهم بمواجهة أوجه الفساد، ثم تطورت لإسقاط حكومة عادل عبد المهدي، وإبعاد الوجوه النافذة سياسياً وطائفياً، باعتبارهم حماة الفساد بأشكاله المختلفة. اللبنانيون فعلوا الشيء ذاته، رفضوا أولاً ضريبة الـ«واتساب» وارتفعت المطالب تدريجياً لتشمل تنحي الرموز السياسية والحزبية والتنفيذية، وإسقاط الحكومة والنظام معاً، وأصبح تعبير الطبقة السياسية المطلوب اختفاؤها هو الأبرز، باعتبارهم السبب الجوهري وراء أزمة لبنان وشعبها. حراك الجزائر بدوره، بات النموذج الأبرز على الدعوة لتغيير شامل للنظام، وإقصاء كل من كانوا على صلة بنظام الرئيس بوتفليقة، باعتبارهم «العصابة» التي نهبت البلاد لعقدين متتاليين.
رابعاً، تدرج رد فعل السلطة من الإنكار وتهميش المطالب الشعبية، ثم التحول إلى الوعود بتنفيذ بعض المطلوب شعبياً ولكن بالتدريج. حالات السودان والجزائر والعراق تبرز مسار الإنكار ثم الانصياع للمطالب الجماهيرية، مع اختلاف في الدرجة، لا سيما في الجزائر؛ حيث الأمور ما زالت معلقة سياسياً، رغم تبني بعض الخطوات التي تعكس استجابة جزئية، كاعتقال بعض النافذين من «العصابة»، وإخضاعهم لمحاكمات بدعوى التورط في فساد. حالة لبنان أخذت شكل الإسراع بالاعتراف بحق الجماهير في الاحتجاج والتعبير عن الرأي، مع وعود بالإصلاح، شريطة أن يلتزم كل الفرقاء السياسيين رؤية جديدة يُتفق عليها، أو يدخل لبنان نفقاً لا مخرج منه. حالتا هونغ كونغ وانفصال كاتالونيا ما زالتا تتفاعلان في مرحلة إنكار مطالب الاحتجاجات؛ خصوصاً إسبانيا، مع استجابة جزئية من السلطة في هونغ كونغ، تمثلت في سحب مشروع قانون تسليم المجرمين لبكين.
خامساً، في كل الحالات، تسود حالة اللايقين عند الجميع. في حالة السودان لعبت الوساطة الأفريقية دوراً رئيسياً في الحوار بين «قوى الحرية والتغيير» والمجلس العسكري الذي أطاح بالبشير؛ لكن في حالات أخرى فإن فكرة الوساطة أو دور الطرف الثالث الوسيط، إما ليس مقبولاً كما هو الحال في الجزائر، وإما غير مطروح كما هو في لبنان وهونغ كونغ وإسبانيا، على الأقل حتى اللحظة.
سادساً، بعض المطالب تضيف إرباكاً أكبر للمشهد العام. فإسقاط الحكومة في لبنان يعني مروحة كبيرة جداً من احتمالات عدم الاستقرار، بداية من الدخول في انتخابات جديدة، والفراغ الحكومي لمدد لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى. كما أن تغيير النظام يعني الإطاحة كلية بنظام المحاصصة الطائفية السياسية، وهو ما يصعب التوصل إلى بديل له إلا في ظروف طبيعية يقبلها الجميع، لإعادة تأسيس لبنان من جديد.
حالة الجزائر بدورها تماثل الوضع اللبناني، فإذا استقالت حكومة بدوي فمن سيدير البلاد؟ وإذ تأجلت الانتخابات الرئاسية فمتى يمكن انتخاب رئيس جديد؟ وإذا اتفق على تغيير الدستور، فمن لهم شرعية صياغة دستور جديد؟ الأمر يمتد إلى مطلب الانفصال في كاتالونيا الإسبانية، فإن أصر عليه المحتجون فمن سيقبل بذلك؟ سواء في إسبانيا أو في الاتحاد الأوروبي. أما هونغ كونغ فيبدو المتاح في حدود التعايش في صيغة بلد واحد ونظامين، وحكومة محلية مرنة، وإلا سيجد جيش الشعب الصيني نفسه مضطراً إلى السيطرة على الوضع العام، ما يؤدي إلى بدء مرحلة جديدة من العنف غير المسبوق، والتوتر الدولي غير المحسوب.