د. عبد الله الردادي
يحمل الردادي شهادة الدكتوراه في الإدارة المالية من بريطانيا، كاتب أسبوعي في الصفحة الاقتصادية في صحيفة الشرق الأوسط منذ عام ٢٠١٧، عمل في القطاعين الحكومي والخاص، وحضر ضيفا في عدد من الندوات الثقافية والمقابلات التلفزيونية
TT

هدنة الحرب الاقتصادية

لأول مرة منذ بدء الحرب الاقتصادية بين الولايات المتحدة والصين، أعلنت الدولتان عن توصلهما لاتفاق يتضمن حلولاً لبعض المشكلات المطروحة في المفاوضات، فبعد يومين من الاجتماعات في واشنطن بين مسؤولين رفيعي المستوى من الدولتين، أعلن الرئيس الأميركي عن التوصل لحل سماه «الخطوة الأولى» من المفاوضات. اتفقت الدولتان من خلاله على أن تتخلى الولايات المتحدة عن زيادة رسوم السلع من 25 في المائة إلى 30 في المائة، والمفترض إقرارها منتصف شهر أكتوبر (تشرين الأول) الحالي، مقابل أن تشتري الصين سلعاً زراعية من الولايات المتحدة، بقيمة تتراوح بين 40 و50 مليار دولار. إضافة إلى اتفاقين آخرين يختصان بحماية حقوق الملكية الفكرية والتلاعب بأسعار العملات.
وهذا الاتفاق الحاصل بين أكبر اقتصادين في العالم يؤثر على الاقتصاد العالمي بأكمله، إلا أن الأطراف الرئيسية فيه هما حكومتا الولايات المتحدة والصين، ورجال الأعمال في الدولتين.
فمن الناحية الأميركية، سبق للرئيس دونالد ترمب التصريح بأنه يفضل الوصول إلى حل كامل، بدلاً من الحلول المؤقتة، إلا أن الاتفاق الحالي أشبه ما يكون بالهدنة، بعدم تعرضه لمواضيع رئيسية في الخلاف الأميركي الصيني. ويبدو أن الضغوطات الكثيرة التي يتعرض لها الرئيس الأميركي جعلته يرضى بهذا الحل المؤقت. هذه الضغوطات تضمنت محاولة عزله من الرئاسة، وما يتداول عن ابتزازه للرئيس الأوكراني، إضافة إلى تباطؤ نمو الاقتصاد الأميركي في الفترة الأخيرة. واتضح من هذا الاتفاق أن ترمب يبحث عن انتصار يبعد عنه هذه الضغوط، وعلى الأغلب أنه سيبحث عن انتصار آخر قبل انتخابات السنة القادمة، وهو ما لمّح له ترمب حين قال إن هذا الاتفاق هو المرحلة الأولى، وستكون هناك مرحلة ثانية وربما ثالثة أيضاً.
وعلى الرغم من عدم وضوح كثير من تفاصيل الاتفاق، فإن أوضح ما فيه هو الاتفاق على زيادة الصادرات الزراعية الأميركية إلى ما يقارب 50 مليار دولار، بعد أن كانت لا تتجاوز 24 مليار دولار قبل بداية الحرب الاقتصادية. وعلى الرغم من مضاعفة هذا الرقم، فإن حرباً بهذا الحجم تُنتظر منها نتائج أكبر بكثير.
أما من الناحية الصينية، فالصينيون يدركون مدى احتياج ترمب لهذا الاتفاق في هذا الوقت تحديداً، واستغلوا ذلك لمصلحتهم، فقسموا المطالبات الأميركية لقسمين: أحدهما يختص بالأمن القومي، والآخر بما عدا ذلك. وصرح مسؤول صيني رفيع بأن 40 في المائة من المطالبات الأميركية يمكن تنفيذها فوراً، و40 في المائة أخرى تحتاج لوقت من المفاوضات حتى تنفذ، من غير أن يوضح مستقبل النسبة المتبقية من المطالبات.
ومع معرفتهم لاحتياج ترمب، وافقوا على شراء سلع زراعية أميركية، إضافة إلى توضيح جدولة دخول المستثمرين الأجانب للسوق الصينية العام القادم، مع وعود بفرض قيود أكثر على الملكية الفكرية. وحتى مع معرفة الصين أن الوقت في مصلحتهم لا في مصلحة ترمب، فإنهم يدركون أيضاً مدى تأثرهم بهذه الحرب، فمعدل النمو الصيني الذي قد يعلن أواخر هذا الشهر، قد ينخفض تحت 6 في المائة لأول مرة منذ عقود. والاقتصاد الصيني في تأثر مستمر، حتى مع قدرة الصين على التحمل لمدة أطول، إلا أن نزيف الاستثمارات منها لدول مثل فيتنام وميانمار قد يؤثر عليها إذا استمر لفترة أطول.
ولم تتضح حتى الآن فائدة المستثمرين من هذا الاتفاق، فباستثناء القطاع الزراعي الأميركي الذي يشكل جزءاً لا يستهان به من مناصري ترمب، لم يستفد أي قطاع آخر من هذا الاتفاق، فلا يزال القطاع التكنولوجي ينتظر تطبيق الرسوم على المنتجات الصينية الإلكترونية في ديسمبر (كانون الأول) المقبل، ولا يزال القطاع الصناعي في مرحلة عدم تيقن من استمرار الرسوم للسنة القادمة، وعدم التيقن هذا جعل كثيراً من الشركات يحجم عن التوسع واستغلال فرص نمو الاقتصاد الأميركي في الفترة الماضية. وحتى سوق المال الأميركية لم تُظهر ردة فعل واضحة تجاه هذا الاتفاق، فارتفعت في أول اليوم وانخفضت في آخره، كما أن رؤوس الأموال الصينية لم تستفد إطلاقاً من هذا الاتفاق.
إن الهدنة بين الصين والولايات المتحدة أشبه ما تكون بفرصة لالتقاط الأنفاس، في وقت احتاجت فيه الدولتان لانتصار، حتى ولو على الجانب المعنوي، فالصينيون سمّوه المرحلة الأولى من الاتفاق، دون أن يعلنوا عن بعض تفاصيله في وسائلهم الحكومية، وترمب عدّه تقدماً حقيقياً في المفاوضات. والواقع أن هذا الاتفاق لم يتطرق لأي من المشكلات الفعلية التي سببت الحرب الاقتصادية ومنها دعم الحكومة الصينية للشركات المملوكة لها. كما لم يوضح هذا الاتفاق آلية تطبيق بنود الاتفاق، مثل زيادة الحماية على الملكية الفكرية. ويبدو هذا الاتفاق وكأنه محاولات من الطرفين لإثبات حسن النية، ولكي يوضحا للعالم أنهما قادران على التوصل لاتفاق فعلي لاحقاً، حتى ولو كان الاتفاق الحالي يبعد كثيراً عن المطالبات الأميركية.