داود الفرحان
حاصل على بكالوريوس الصحافة من جامعة بغداد عام 1968. نائب نقيب الصحافيين العراقيين لثلاث دورات، الأمين العام المساعد لاتحاد الصحافيين العرب. مدير «مركز المعلومات والبحوث» في وزارة الثقافة والإعلام العراقية. معاون المدير العام لوكالة الأنباء العراقية. المستشار الإعلامي للسفارة العراقية في القاهرة (1989 - 1990). كاتب عمود صحافي في الصحف العراقية منذ عام 1966، وكاتب عمود في مجلات: «المجلة» السعودية، و«الأهرام العربي»، و«الصدى» الإماراتية، و«اليمامة» السعودية، و«التضامن» اللندنية. رئيس تحرير صحف ومجلات عراقية أسبوعية عدة ومؤلف لعدد من الكتب.
TT

العراقيون يريدون وطناً

مثلما حدث في تونس ثم في مصر عام 2011 حين كرّت المسبحة: ليبيا وسوريا واليمن والسودان والجزائر، حان دور العراق لإسقاط حكم الأحزاب الدينية. تغير النظامان التونسي ثم المصري. لكن الشرارة السورية تحولت سريعاً إلى حرائق التهمت كل سوريا ثم فوجئ العالم أنها أصبحت حرباً عالمية مصغرة تجد فيها قوات إيرانية وروسية وعراقية ولبنانية وأميركية وتركية وإسرائيلية، بعضها ميليشيات مثل إيران والعراق ولبنان، وبعضها جيوش نظامية مثل روسيا والولايات المتحدة وتركيا وإسرائيل. التطورات والنتائج والخرائط صارت معلومة للجميع. وكذلك الحال في اليمن بعد الانقلاب الحوثي الطائفي الذي سيطر، مدعوماً من إيران، على صنعاء وبعض المدن، بينما انتقلت الحكومة الشرعية إلى عدن مدعومة من التحالف العربي بقيادة المملكة العربية السعودية.
اليوم جاء دور العراق: انتفاضة شعبية واسعة تمددت يوماً تلو آخر من بغداد إلى المحافظات باستثناء إقليم كردستان والمحافظات السنية. وقد يستغرب البعض تأخر انضمام المحافظات السنية (الأنبار ونينوى وصلاح الدين وكركوك وديالى) إلى المحافظات المنتفضة، مع أنها تعاني منذ 2003 من تسلط طائفي مسلح قاده رئيس الوزراء العراقي الأسبق نوري المالكي مدعوماً بميليشيات موالية لإيران تسعى تحت حجة القضاء على «داعش» إلى استكمال حلقات «الهلال الشيعي» من إيران إلى لبنان.
ويبدو المشهد العراقي في مظاهرات هذه الأيام مختلفاً عن مظاهرات عام 2011؛ فقد تلاشى التمييز الطائفي في الاحتجاجات الأخيرة بعد أن وحدت بين سكان العراق المعاناة الطويلة القاسية. والمثير في ثورة شباب العراق أن الشيعة الذين يزعم النظام الحاكم أنه يمثلهم هم الأعلى صوتاً والأكثر احتجاجاً على الفساد والبطالة وسوء الخدمات والاحتلال الإيراني العلني.
حتى الآن الانتصار الأول لمظاهرات الاحتجاج الواسعة في الأيام الأخيرة هو تجاوز عقدة الطائفية التي سادت المشهد خلال السنوات من 2003 إلى 2019 وعودة الهوية الوطنية إلى الواجهة بعد طول تغييب. لقد جمعت معاناة العراقيين في هذه السنوات العجاف بين عرب العراق في وحدة افتقدوها كثيراً وطويلاً بسبب الأحزاب الطائفية التي سيطرت على أركان النظام الحاكم.
لماذا يصمت العالم على محنة العراقيين؟ الأمم المتحدة تعرف جيداً أعداد اللاجئين العراقيين التائهين بين عواصم العالم، ووصل كثير منهم إلى أقصى المدن والقرى الأوروبية والأفريقية والآسيوية وأستراليا بحثاً عن الأمان وإنقاذا لعوائلهم. لقد تنصلت الولايات المتحدة، التي نكبت العراقيين بالغزو، من إعادة الأمن إلى البلاد وسلّمت العراق في عهد الرئيس السابق أوباما إلى وكلاء إيران من أحزاب طائفية وميليشيات إيرانية تدين بالطاعة والولاء إلى «الولي الفقيه» علي خامنئي.
كانت أمام واشنطن في الأيام الماضية فرصة ذهبية للتكفير عن غزوها لبلاد الرافدين في عام 2003. لكنها اكتفت ببيان باهت يشبه «قلق» الأمم المتحدة، يؤكد أن من حق العراقيين التظاهر السلمي، داعياً الحكومة إلى عدم استخدام القوة. المشكلة أن هناك في الحكومة العراقية من لا يعرف غير استخدام القوة المفرطة في وجه الشعب بينما «يطبطب» على أكتاف الفاسدين والمجرمين الذين سلموا الموصل إلى «داعش» والميليشيات الإيرانية التي تعيث في الأرض فساداً وتشن حرب إبادة ضد السُنة شملت تغييب عشرات الألوف من الرجال والأطفال بلا محاكمة في منطقة جرف الصخر وفي معتقلات أخرى، وتهجير سكان عشرات القرى لتغيير ديموغرافية المحافظات لصالح إيران.
ما الذي اتخذته الحكومة العراقية من قرارات في ضوء مظاهرات الاحتجاج؟ عادت إلى «الكتالوج» نفسه الذي جربه الرئيس المصري حسني مبارك والرئيس التونسي زين العابدين بن علي والرئيس السوداني عمر البشير والرئيس الجزائري بوتفليقة والرئيس السوري بشار الأسد والرئيس الليبي معمر القذافي: إعلان حالة الطوارئ. منع التجول. فئة مندسة. غاز خانق. رصاص حي. غلق الجسور والشوارع. اعتقال المتظاهرين أو قتلهم. وساير الرؤساء السابقون مخترعات العصر فلجأوا إلى وقف خدمات الإنترنت بكل تطبيقاتها. وبدلاً من أن يستل رئيس الوزراء عادل عبد المهدي استقالته الشهيرة من جيبه، ردد ما قاله الرئيس الأسبق حسني مبارك صاحب الكلمة المأثورة: «لا أنتوي الترشح»، وقرر تشكيل لجنة «لكشف الحقائق» وكأن هذه الحقائق غير معلومة، واعتبر منع التجول دواءً مراً لا بد أن يتجرعه الشعب، على الرغم من أن هذا الدواء المرّ يجب أن يتجرعه كل من أوصل البلد إلى هذا المأزق الدامي. ولم نسمع كلمة واحدة عن الإفراط في استخدام القوة والاعتقالات التي مارستها القوات الأمنية والحشد الشعبي وأزلام قاسم سليماني.
إن المطالب الأساسية التي يعاني منها العراقيون تتعلق بالإحباط الاقتصادي والجور الأمني ونقص الخدمات والتدخل الإيراني. ولم يفت صحيفة «نيويورك تايمز» أن المتظاهرين كانوا يرددون هتاف «نريد وطناً» في إشارة إلى التغلغل الإيراني العلني في السلطة وعلى الأرض.
الخلاصة: سلاح الطائفية أصابه العطب. الجيل العراقي الجديد قرر استعادة العراق من إيران. انتهاء سنوات صلاحية الفساد والتعسف واللطم.