د. عبد الله الردادي
يحمل الردادي شهادة الدكتوراه في الإدارة المالية من بريطانيا، كاتب أسبوعي في الصفحة الاقتصادية في صحيفة الشرق الأوسط منذ عام ٢٠١٧، عمل في القطاعين الحكومي والخاص، وحضر ضيفا في عدد من الندوات الثقافية والمقابلات التلفزيونية
TT

الأثر المالي للعلامات التجارية

في لقاء له سنة 1997، صرح رئيس شركة «كوكاكولا» أنه لو استيقظ في الصباح ليجد أن جميع موجودات كوكاكولا قد انمحت من الوجود، لاستطاع الذهاب إلى البنك والحصول على قرض ليعيد به بناء الشركة مرة أخرى، دون الاعتماد على أي ضمان للبنك سوى اسم العلامة التجارية (كوكاكولا). وحتى هذه اللحظة لا تزال العلامة التجارية لـ«كوكاكولا» ضمن أغلى العلامات التجارية في العالم، وهو ما تتنافس عليه كبريات الشركات في العالم. حتى أنشئت شركات مستقلة لا عمل لها إلا تقييم العلامات التجارية بشكل سنوي، ولعل أشهر هذه الشركات «إنتربراند» التي تأسست في عام 1974، وبدأت في تقييم الشركات الأميركية منتصف الثمانينات لتنتقل بعدها لتقييم الشركات العالمية نهاية التسعينيات. ويتضح أن تقييم العلامات التجارية أمر يهم أطرافاً عدة، سواء كانت الشركات نفسها، أو المستثمرين أو حتى العملاء. وبينما تسهل معرفة أثر هذا التقييم على الجوانب التسويقية وزيادة المبيعات ورضى العملاء، فإن ما لفت الانتباه في السنوات الأخيرة هو تأثير قيمة العلامات التجارية في أداء الشركات وسلوكها المالي.
ومن الناحية المالية، فإن القيمة السوقية للعلامة التجارية تعتبر من الموجودات غير الملموسة للشركة، وهذا الجانب من الموجودات يرتبط عند الماليين بمعدل الخطر المرتفع، حيث إن قيمته لا تخضع إلى قواعد يسهل فهمها كما هو الحال مع الموجودات الملموسة التي يسهل التأمين عليها والحفاظ على قيمتها بشكل أو بآخر، أو على الأقل توقع سلوكها المستقبلي من ناحية التقييم. إلا أن قيمة العلامة التجارية تحديداً تختلف في هذا الجانب عن بقية الموجودات غير الملموسة. حيث أوضحت الدراسات أن الشركات التي تملك علامات تجارية ذات قيمة عالية تتمتع بمميزات لا تملكها الشركات الأخرى.
ولعل أولى هذه المميزات وأوضحها هي الميزة التنافسية، حيث تستطيع هذه الشركات رفع أسعار منتجاتها دون أن تتأثر مبيعاتها بشكل كبير، حتى وإن تساوت جودة ومواصفات منتجاتها مع بقية الشركات الأخرى. والأمثلة كثيرة على شركات تبيع منتجاتها بأسعار مرتفعة وبإقبال كبير من المستهلكين دون وجود مبرر لهذه الأسعار ولهذا الإقبال سوى تأثير هذه العلامة التجارية على المستهلكين، بل إن بعض المستهلكين يتعمدون إظهار هذه العلامة التجارية على المنتجات التي يدفعون ثمنها إعجاباً بالعلامة التجارية، مقدمين بذلك دعاية مجانية للشركة، ورافعين من قيمة علامتها التجارية.
ثاني هذه الميزات مرتبط بمعدل الخطر في الشركة، فمع زيادة قيمة العلامة التجارية وشهرتها، يسهل على الشركة الحصول على قروض بأسعار فوائد منخفضة، ذلك أن أغلب الشركات التمويلية ترى ارتباطاً بين الملاءة المالية وذيع صيت الشركة. وتحصل الشركات بذلك على مميزات مالية لا تحصل عليها الشركات المنافسة. كما أن المستثمرين أنفسهم عادة ما يقبلون على هذه الشركات المشهورة لاقتناعهم بأنها شركات غير قابلة للإفلاس وأن اسمها قد يكون سبباً كافياً للاستثمار بها.
ولذلك فإن الكثير من الدراسات أوضحت أن أداء أسهم الشركات المشهورة (ذات العلامات التجارية مرتفعة القيمة) أفضل بكثير من نظرائها غير المشهورة. وقد طبقت هذه الدراسة على أكثر من دولة وتشابهت نتائجها. بل إن دراسات أخرى وضحت أن الشركات المشهورة أقل عرضة للتأثر في حال انخفاض سوق الأسهم. ولذلك فإن الاستثمار في العلامة التجارية للشركات دائماً ما يرتبط بثقة المستثمرين وبالنجاح طويل المدى.
ووضحت شركة «ستاندرد آند بورز» أنه من ضمن 500 شركة، تشكل القيمة السوقية للعلامات التجارية أكثر من 30 في المائة من القيمة السوقية الإجمالية. كما وضحت «إنتربراند» حرص الشركات على رفع قيمة علاماتها التجارية من خلال منافستها السنوية، حيث زادت قيمة «أمازون» السوقية في عام واحد من 2017 إلى 2018 أكثر من 35 مليار دولار، فبعد أن كانت قيمة علامة «أمازون» التجارية 65 مليار دولار عام 2017، أصبحت 100 مليار عام 2018، وهي التي كانت لا تزيد على 4.5 مليار دولار عام 2000. كما زادت القيمة السوقية لـ«أبل» من 6.5 مليار دولار عام 2000 لتصل إلى 214 ملياراً عام 2018. أما «غوغل» فبعد أن كانت قيمة علامتها السوقية 8.4 مليار دولار عام 2005، زادت هذه القيمة لتصل إلى 155 ملياراً عام 2018.
إن استثمار الشركات في علاماتها التجارية يزيد احتمالية نجاحها في المستقبل، ولذلك فإن الكثير من الشركات تضخ الكثير من الإعلانات لزيادة وعي الناس بعلاماتها التجارية، ورغم هذا الإنفاق، تزيد قوائمها المالية بزيادة موجوداتها غير الملموسة. وحتى مع عدم اتضاح عائد هذا الاستثمار على المدى القصير، فإن عوائده سواء على الشركة نفسها أو على الاقتصاد المحلي بشكل عام لا يمكن إغفاله. ولذلك فإن الكثير من المؤشرات المرتبطة بالتنافسية أو حتى بالابتكار تربط شهرة العلامات التجارية ببلد ما بقدرة البلد نفسه على التنافسية. فحتى وإن استطاعت دولة ما إنتاج منتج منافس ومشابه لها، فهي لا تستطيع إنتاج منتج يملك علامتها التجارية نفسها، التي قد تكون السبب الأكثر أهمية في الإقبال على هذا المنتج.